خير الكلام!
| غسان كامل ونوس
ليس مطلَقاً القول: إن خير الكلام ما قلّ ودلّ؛ فقد يكون مدلوله جارحاً أو صادماً أو سلبيّاً بأي حال، وبأقلّ الكلمات؛ بل بالتلميحات أيضاً. ولا يشمل هذا ما يشير إلى السلبيّات والعيوب والنواقص، في أماكن القول المناسبة للتصحيح والترميم والتصويب؛ بل الكلام الذي يحمل الأذيّة، ويسبّب الفتن، ويحضّ على الكراهية، ويدمّر ما تبقّى من حصانة ومنعة في الكيان الشخصيّ والجمعيّ، الذي يتعرّض لأقسى الضغوط وأشرسها، وأكثرها تضليلاً، وتبخيساً للقيم، وترخيصاً ممّا هو قيّم وثمين.
وقد يحتاج الأمر إلى قولٍ كثيرٍ مع عمل أكثر؛ لأن من تعرّض لحقن شديد ومديد في وعيه، وتخزين وانضغاط في لا وعيه، لا تكفيه إشارات، أو أقوال مأثورة، أو آيات مختارة، ولا كلمات معدودة… ومن غير المفيد- بلا أدنى شكّ- الاستغراق في الكلام حول التوصيف والتعريف والتصنيف، وتحميل المسؤوليّات على الآخرين، وإلقاء التهم مجّاناً أو بأثمان ومحسوبيّات؛ للتخلّص من تبعات، والتملّص من مهمّات؛ وليس من المناسب أبداً التذكير دائماً بالإرث المرَضي والتوارث الانتهاكي لأساليب الفساد والإفساد وأدواته وعناصره، وبؤره ومجاريره وأنفاقه، من دون سعي حقيقيّ للمواجهة… ولا ينفع الضخّ في مسامات الناس بعد فتحاتهم، عن الفهلويّة والمناورة والاحتيال، وشطارة القبض على «المعلوم» من فم المغارة؛ فقد يكون ذلك بالتعاون مع «علي بابا»، الذي يعطي السرّ لأقرب عملائه وأبعد أسياده!!
وليس مسوّغاً تناول الناس بما لا نعرف؛ تعميماً ظالماً وتعويماً مقصوداً؛ لتضييع البوصلة، وتشتيت الجهود، وتسويغ ما قد يلي من أفعال، لا تبتعد كثيراً أو قليلاً عمّا يتمّ تناوله وإدانته، وإضعاف الإرادة والرغبة في المقاومة، وإغراء بالانغماس في البركة الآسنة؛ لكي تكون الجبهة المقاوِمة أضعف، والمواجهة أسهل. والنتيجة القادمة محسومة؛ استفحال المرض واستشراء الداء، وبطلان مفعول الدواء أو فقدانه.
وليس قول الأشياء المعروفة، بتفاصيلها المملّة، مناسباً دائماً؛ إلا في مجالس وملتقيات محدودة، ولأغراض محدّدة؛ وليس استعراض الأمراض وإشاعتها وأعراضها وأعداد المصابين بها مطلوباً دائماً؛ إلا في إطار الإحصاء والتحقّق والوقاية والمحاسبة والبحث عن علاج؛ ولاسيما أن مثل هذه الأقوال تثار بمبالغات وتهويمات وشواهد غير موثوقة، وأدلّة ينقصها الإثبات؛ وهذا لا يعني عدم إعطاء الناس معلومات صحيحة وواقعيّة؛ بل عدم الإخافة والترويع وزيادة الهرج والانفلات والفوضى.
ولا شكّ في أن الثرثرات مضرّة، والشطح في الامتداح المبالغ به، يستجلب البحث عن المثالب في الممدوح؛ كما أن الاستزادة من التشبيهات والتمثيلات، يحوّل الأمر إلى استعراض في الظهور والحلول والحضور.
ومن ثم يكون من المناسب، وفي أغلب الأحيان، قَصْرُ الكلام على ما يفيد؛ معلومة أو أخباراً، بصرف النظر عن التحليلات التي لا تنتهي، حتّى من قِبَلِ من لا يعرف، ولم يكن حاضراً، ولا متابعاً ولا مقصوداً ولا مهتمّاً؛ مع ما يمكن أن يسبّب ذلك من تشعّبات وتفرّعات وأقاويل وتعليقات؛ بعضها لا ينتمي إلى جنس الحديث أو أصله أو فحواه.
لكنّ التوضيحات من العارضين ضرورة، والشروح من بعض المتفهّمين، أو المشاركين أو المسؤولين عن الأمر لازمة، حتّى لا تُترك الساحة للمهرّفين، الذين لا يعرفون!
وفي الناس متنبّئون كثر، ومبصّرون، وقارئو العيوب والقلوب والأبصار والمصائر؛ على الرغم من كلّ ما تلقي به المحطّات والقنوات والصحف والفضائيّات والعالم الافتراضي؛ فماذا ينبغي لك أن تفهم وتُترجِم، وتقرّر وتريد، وتقدِم عليه…!!
إنّ الحديث في الشأن العام، يتطلّب كلاماً مقنعاً قريباً من الفهم العام، والوجع العامّ والخاصّ، ويستدعي التمثّل بمشاعر الناس ومواجعهم وهمومهم، وتأميلهم بما هو ممكن أن يحصل؛ لا إعطاءهم أوهاماً وآمالاً عصيّة على التحقيق؛ أو يكون الكلام قارساً ومخيّباً ومكروراً ومحبِطاً، أو يستغرق في مكان آخر، وجهة أخرى، لا تهمّ المجموع، ولا تثيره، ولا يثق بالقدرة على إنجازه.
وليس من المفيد– أيضاً- التقليل من إمكانيّات الخصوم، ولا المبالغة في قدراتهم.
إنّ خير الكلام -حقاً- ما قلّ ودلّ، وخفّف وواسى، وشجّع وأمّل، وقرّب بين الناس، وصفّى القلوب، وأوضح وعالج ورمّم، وكان مسؤولاً.