كن صوتي لأكون صداك … من بينيلوبي إلى طرفة وفيرا بين الصوت والصورة
| نجاح إبراهيم
مقدمة 1:
كن صوتي لأكونَ صداك.
وذاك اللقب المستحبّ الذي أطلقته عليّ « ابنة الجبل» ما برح الوجود يشدو به.
مقدمة 2:
أطلق الصوت واصغِ إلى ذياك الصدى- لا أصمّه اللـه- وقلْ كلمتك ستقطف المشتهى، فهل أوحى منه؟!.
مقدمة 3:
ذلك الصوت أفلتَ في وادٍ محصور بين جبال بها من الصمت ما يكفي، فأينع صدى، لا أبالغ إن قلت سيدوم أبداً، ثمار الشهرة تتلألأ مثل عناقيد بلورية بين أغصان دالية في ضوء قمر بهيّ.
سأتجاوز حدود كلينا، سأتخطى أناك وأناي، وأدخلُ عمق الأسطورة، التي وقفت حائرة أمام بعض أصواتها أو صداها، فحرت بينها وبين واقعة حدثت وسمعنا بها.
ثمّة مثل عربي قديم يقول: «أخرقُ من ناكثة غزلها». وقد قيل في امرأة من قبيلة قريش، واسمها أم ريطة بنت كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وصمت بالخرقاء لأنها كانت تنقض غزلها وغزل جواريها بعد أن يكتمل، ولم أعثر على هدف أو غاية لفعلتها تلك، وربّما لم يحظ الأولون قبلي بمغزى لها أيضاً، لهذا قيل: إنها حمقاء، أو خرقاء، وضُرب بها المثل في الخرق، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم:
«ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً».
ولنعد إلى الأسطورة ونتذكر «بينيلوبي» زوجة أوديسيوس التي كانت تنسج طوال النهار غزلها، معللة كلّ الذين يطلبون يدها بالموافقة، وفي الليل تنقض ما غزلته، لتبدأ كلّ صباح من جديد.
وثمّة غاية لقيامها بهذا، إذ ركب زوجها البحر ولم يعد، وأقسمت على الوفاء له على الرّغم من جمالها وشبابها وكثرة طالبي يدها.
فالأسطورة لا شك هي الصوت لأنها الأقدم، والصدى ما كان عند المرأة القرشية.
على الرّغم من اختلاف الأسطورة والصدى فقد خلدا الهدف لدى كلٍّ من المرأتين، لاشك أن الأساطير كانت الصوت، الذي فتح الأفق لكلّ صدى، على الرّغم من أن البشرية خاضت الأفعال ذاتها.
ومن منا لا يذكر قصة جرت في الجاهلية، وهي قصة «المتلمس» خال طرفة بن العبد، حيث أغضب ملك الحيرة «عمرو بن هند» حين هجاه طرفة، بعدما وقفا في بابه ولم يعرهما التفاتة، أو يمنحهما مالاً، فأراد عمرو أن يقتل طرفة لكنه خشي من هجاء المتلمس له، فقال لهما: اذهبا إلى البحرين، هناك تجدا ما يصلكما بالعطاء. وأعطاهما صحيفة مختومة، وفي الطريق شكا بها بعد أن فتح رجل أعينهما، وفضاها، وإذا فيها: «إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه، وادفنه حياً».
وثمّة حكاية هوميرية، ربّما كانت الصوت الحقيقي لصدى قصة المتلمس، وهي قصة حفيد سيزيف «بيليروفون» الذي عشقته الملكة «أنتيا» لجماله، فرفض أن يعاشرها، فتعهّدت به إلى الملك « بروتيوس» وطلبت قتله، ولكن الملك كان يحبه، فصعب أن يقيم الحدّ عليه، فأرسله إلى «ليسيا»، وحمّله رسالة تتضمن عدداً من الرموز تشي بقتله. ولكن ملك «ليسيا» ارتأى أن يكلفه بمهام خطيرة لايمكن النجاة منها، بيد أن الشاب ينتصر ويؤكد للجميع أنه سليل آلهة.
القصتان جرتا في مكانين مختلفين وزمنين مختلفين أيضاً، لكن لا يمكن إلا أن تكون إحداهما صوتاً والأخرى صدى. وإن كنا نستطيع أن نفرق بسهولة اتكاءً على الزمن.
وقصة زليخة في العهد القديم، وعشقها ليوسف حين راودته عن نفسها، فتمنع ولاقى ما لاقاه من ظلم وحبس حتى ظهر الحق، وقيض للمرأة أن تبقى عاشقة له، تتبع ريحه أينما ذهب. وما إن سمحت العناية الإلهية بالارتباط به عزفت عن الأمر، وتحوّلت من حبها لبشريّ إلى حبّ خالقه.
وهذا يذكرنا بـ(الفيرا) معشوقة الشاعر الفرنسي (لا مارتين) التي تركت حبّها الإنساني في آخر عمرها لتتجه إلى حبّ اللـه، ارتأته استمراراً لصوت في داخلها لا تريد له الزوال.
ولو أردنا أن نتمثل واقعنا كأدباء، فإن الصوت والصدى لن يغيبا عن نصوصنا، بدءاً من العنوان، فأي عمل إبداعي لابد أن نضع له عنواناً، ربّما يأتي أولاً، وربما لاحقاً.
بيد أنه يبقى العنصر الأساسي في النصّ، على الرّغم من إيجازه، إذ إنه يعدّ المفتاح الذي من خلاله يمكن الولوج إلى عالم النصّ وكشف أسراره، ويشي بفضاء النصّ، أو فكرته كعنوان (رسائل الحب والحرب)، (الحرب والسلام).
فالعنوان يؤدي «وظيفة شكلية وجمالية ودلالية، تعدّ مدخلاً لنصّ كبير، كثيراً ما يشبهونه بالجسد، رأسه هو العنوان».
فهل يكون النصّ صوتاً والعنوان صدى؟
من الأول الذي يلحق الثاني؟
لاشك أن كلّ كاتب يستطيع أن يجيب عن السؤال، وتبقى المسألة نسبية بين كاتب وآخر. والسؤال الذي ينبلج من الفكرة: هل الصدى يأتي متأثراً بالصوت فيقلده؟
ولم يحمل بذرة خلوده في داخله؟
هل يمكن أن يموت الصوت، وهل ثمّة محاولة لقتله؟.
ثمّة عالم إسلامي حُبس في بئر، أرادوا من هذا القصاص أن يُخرسوا صوته، أفكاره، فخرج بعد سنين بسبعة مجلدات، ظلت الأجيال تنهل منها قروناً وما زالت.
لقد ارتأى أن يعوّض خسارته في الصوت الذي خُنق بين جدران العتمة، والبرودة والرطوبة، أو أن يحيد عن قتله، أو أن يتجاوزه، فكان أن اختار صدى جاء مدوياً.
لا أعني أن الصدى يكون دائماً حالة إيجابية، أو خلوداً مشرفاً، فكثير من القادة لم يتركوا سوى صدى سيئ، مشبوه، أمثال نيرون، وكاليغولا، وهانيبعل، والاسكندر المقدوني، وهتلر وآخرين امتداداً إلى وقتنا الراهن.
وكان بإمكانهم أن يعوا حقيقة أصواتهم، فيكفوا على أن يكون صداها مروعاً.
أو يدركوا أن ثمّة صدى يتخلق، ولا يليق بأصواتهم/ مناصبهم، ويجدر أن يأتي مغايراً. ولكن على من تلقي بمزاميرك يا داود، حالهم حال الحداد الذي صنع المسامير وتمّ غرزها في لحم المسيح.
فلو كان يعرف صوته /مهنته ستأتي بصدى أرعن، لترك تلك المهنة وكتم الصوت عن آخره.
خلاف ذلك فإن ثمّة صوتاً مستحباً رغب الكثيرون أن يكونوا له صدى، راغبين في أن يقطفوا بذرة الإبداع منه، متجاهلين حقيقة أنهم مهما حاولوا فلن يكون بلا صوت، وذلك ينطبق على أشعار في العصر الجاهلي، قرأناها لأكثر من شاعر، وتكرارها لم يكن سوى إعادة تشكيل/ صدى لما بدر عن الصوت الذي انطلق أولاً.
فإذا وقفنا عند بيت لامرئ القيس، يقول فيه:
«وقوفاً بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل»
لوجدنا أن طرفة بن العبد يكرّره، فيقول:
«وقوفاً بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد»
وثمّة عبارة اشترك في تكرارها عشرات الشعراء وهي: «تبصّر خليلي هل ترى من ظعائن؟» وكي نتلافى الدوران والبحث في الشعر الجاهلي عن الصوت، فإننا سنجده للملك الضليل بلا منازع وكل ما أتى بعده مجرد صدى، حينها نقول إن الصوت متفرد بحضوره لا محالة.
ولعل ما يؤكد هذا التكرار اعتراف زهير بن أبي سلمى في بيته الشهير:
ما أرانا نقولُ إلا معاراً أو معاداً من قولنا مكرورا.
فهل يستطيع الصدى أن يسرق الضوء من الصوت وينال البقاء؟.