مازلنا نغنّي أناشيد الصباح
| د. علي القيم
في المنام، باغتني صوت الأديب الكبير الراحل ممدوح عدوان بضحكته المجلجلة وقال لي: لقد اصطفيتك من العكر العربي، لأنني أعرف رفضك الأمجاد الغابرة… اصطفيتك، لأنني أردت من خلالك أن أجفف المخاوف، وأبصر وجه دمشق بعد مرور خمس سنوات من أزمة مريرة لا حدود لقبحها وقساوتها… اصطفيتك لأنك لم تنحرف نحو الشط هارباً، ولأنني عليك أستطيع الاتكاء…
قلت: الناس تردد كلامك في «تلويحة الأيدي المتعبة».. الناس يأكلون الحشيش، لعلها لقمة توقف الجوع.. لم يزل فقراء القرى والمدن، يولدون من الكسل المرّ.. الجوع كافر، والبطون مورّمة، وجلود الصبايا مهدّلة.. الناس يقولون غير كلامهم، علّهم يتجاهلون فقرهم ببعض الغناء الحزين.. بلادنا انتهكت من غزاة لا هوية لهم.. لقد قتلوا النائمين، وكانوا كالجراد الغريب، خناجر غدر.. ولكن ما زلنا نصرخ في كبرياء، نرفض المهزلة..
أين أنت يا ممدوح، في أيامنا الخاوية؟!
قال: ماذا لدّي سوى الشعر؟! والشعر ليس بأرغفة.. احمدوا ربكم لقد أرادوا أن تسقط المقصلة.. الحمد لله لقد نهضت الأرض ونهض فيها البشر.. لقد نفضوا الغبار، بين الصخور والشجر..
قلت: أبشر، يا صاحب ديوان «الدماء تدق النوافذ» سيصبح جوع الجياع سيوفاً، ويضحي البكاء غناءً، وترتدي الأرض أثوابها، وسوف نمسح الدموع التي ذرفت في الزوايا.. أبشر يا ممدوح، دمشق اتسعت حتى احتوت كلّ البكاء.. وفي سورية الأمان ما زال موجوداً يحمينا من سلاح المرتزقة والتجار والخوف.. فيها كل ما يستر من عاصفة، والعطر مازال يصدح فجراً ياسميناً من دمشق.. وما زال العصفور يغنّي أناشيد الصباح.. الناس في وسط الأزمة اكتشفوا لعبة الغدر.. تلك كانت محنة العمر التي أثقلتنا بالحزن والكآبة، وفجرّت فينا عذابات الروح.. لقد حاول الزمان أن يمحو الملامح.. في وجوه لم يعد فيها وهج.. لقد حاولوا إغراقنا في صمت طويل، وكأن الجسد قد رقد.. لقد تعثرت الأقدام، وانداح التعب.. لقد أرادوا تحويل الأرض إلى صخر وسجون..
قال: لقد جعلتني أصيح يا مرتجى.. ألماً كنت أم حلماً.. لقد ضاقت الحروف كنفسي، وكلما ازددت قرباً تعبئني غربة..
قلت: عري المباهج غرّبنا.. لقد أرهقنا الجندل.. لا تلومونا إذا نحن بكينا.. لقد أثقلنا الموت خمس سنوات.. لقد أرادوا حياتنا بلا درب.. بلا أفق.. بلا آثار خطوات.. بلا هدف.. أرادوا أن نتوه في زحمة الأشلاء، مثل العناكب التي تستعيد خيوطها وتغوص في العفن.. لقد أرادوا أن نعيش أشقياء.. نواجه نبض نهايتنا.. نطارد خيط شعاع، نبحث عن ظل بيت قديم، وعن ظل حلم قديم..
قال: عندما غادرتكم كان البيت مكتظاً بأحلام وضحكات.. مالي أرى فوضى البيت.. المعزون تغاضوا عن لفافات التعازي، ومناديل البكاء.. ما هذا الوحل فوق العتبة؟!
قلت: لقد وسّخوا الدنيا.. خمس سنوات أصبح الحزن والكآبة والقتل فيها عادة.. أصبحت فيها السعادة خيانة.. لقد أتعبنا السير في خط مستقيم، فنزلنا إلى الأقبية.. كل منّا يركض ليدوس ظل الآخر، والآخر يداور ويناور ويهرب بظلّه.. حين نعود إلى بيوتنا نفتح الأبواب لدموعنا التي خبأتها الكبرياء..
مع كل هذا وذاك، أقول لك يا صديقي، أعرف جيداً أنك كنت ضد «حيونة الإنسان» ودائم الاحتفاء بالحياة لا بالموت، وكنت ترى أن الشعر هو ذلك الشيء الإيجابي العظيم، الذي يؤكد أننا نحزن لأننا لم نتعود الذل، ولم نقبله، لذلك كنّا وسنبقى أقوى من أن تهزمنا أزمة أو مؤامرة، وهذه مأثرة من مآثر الشعب السوري المناضل المكافح من أجل الحياة، وبناء المستقبل الواعد..