المسجد الأموي في رمضان … تواصل وعطاء وصلة رحم ومآكل أشكال وألوان
| منير كيال
تنفرد مدينة دمشق بتقاليد مميزة عن مثيلاتها من الحواضر العربية الإسلامية، ولمّا كانت هذه التقاليد لا تتعارض بمجملها مع تعاليم الدين الحنيف، فقد اعتبرت جزءاً من تراث شهر رمضان المبارك.
فقد كان يسبق حلول الشهر بأيّام قيام الناس بنزهات يطلقون عليها اسم تكريزة رمضان، وتكون هذه التكريزة إلى الرياض والغياض على ضفاف نهر بردى، وبخاصة إلى الربوة والمنشار والشادروان وقد تكون إلى الغوطة إذا كان حلول الشهر بالربيع.
وهم في ذلك يقضون نهارهم في ذلك الجوّ بالخضرة والماء، ومنهم من يحجب نفسه مع أسرته بحواجز قماشية تحاشياً لأعين الحشريين وبالتالي أخذ النساء حريتهن بذلك السيران أو التكريزة.
وكنت ترى بكل جماعة من أولئك السيرنجية من يعد الطعام من الشواء أو المقالي أو نحو ذلك ومن تُعدّ السلطة أو الشاي… ومن الرجال من يدخّن الأركيلة أو يلعب مع شخص آخر لعبة من ألعاب طاولة الزهر أو الدومينا، في حين ينشغل الأولاد في قطف الأزاهير أو ملاحقة فراشات الحقل، ومن ثم فقد يكون للفتيان دور بالمشاركة بالدبكة أو ألعاب الكبار الأخرى من غناء وأهازيج.
وهم يقومون بهذه التكريزة على سبيل وداع لما لذّ وطاب من مُتع الحياة، وفسحة ينصرف المرء بعدها إلى الصيام وما رافق الصيام من الطاعات لله تعالى.
ولعل من أبرز الظواهر الأخرى التي تسبق حلول شهر رمضان، حال أسواق مدينة دمشق، استعداداً لتلبية حاجات الناس من تموين المواد الغذائية من أرز وسكر وسمن وما رافق ذلك من مستلزمات الطعام لذلك الشهر، لأن المرء يحرص كثيراً بنوعيّة طعام أسرته بشهر الصيام… وهكذا كنت ترى حركة البيع بهذه الأسواق قائمة على قدم وساق، وقد كُدّس بالدكاكين التي في الأسواق ما يلزم، فرمضان كريم والمرء يسخو على أسرته لتوفير أطايب الطعام والخشافات والشرابات.
ولا ننسى ما كانت عليه المساجد بدمشق استعداداً لهذا الشهر، ومن ذلك القيام به بأعمال الإكثار من سُبُل الإضاءة والقيام بأعمال التنظيف وفرش السجاد إكراماً لهذا الشهر وبخاصة بالمساجد الكبرى كالمسجد الأموي وجامع التوبة والدرويشية ونحو ذلك من المساجد الكبرى بدمشق وهذا يعود إلى زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب (ر)، فهو أول من فكّر بإنارة المسجد النبوي، الإنارة الزائدة بشهر رمضان عن المعتاد في بقية أيام السنة، وذلك كي يتمكن المسلمون من أداء صلواتهم وصلاة التراويح والتلبس بلبوس الصيام، وقد قال في ذلك الإمام عليّ كرّمه الله لعمر بن الخطاب في ذلك نوّر الله على عمر، كما نوّر علينا مسجدنا.
وقد تميّز المسجد الأموي بدمشق بعناية خاصة ليكون مستعداً لاستقبال المصلين المقبلين على الطاعات وحلقات الذكر والمواعظ التي تنير لهم سُبل الصيام الخالص لله وتذكر الوثائق التي كانت في قبّة الخزنة بالجامع توزع العاملين بالمسجد على ستة مواقيت، ثلاثة منها نهارية وثلاثة أخرى ليلية، وكان لكل عامل منهم عمل خاص له أجر محدّد.
ويرأس الجميع قائم مقام، ويساعده رئيس لكل ناحية، فكانت مرية للتنظيف ومرية للشعّالين ومرية للمؤذنين ومثلها لأماكن الوضوء وأخرى لصحن المسجد.. ومن أشهر من كان يعمل بالمسجد الأموي: آل الحلبي والريّان والداية والحافظ.
ومن جهة أخرى فإن من الممكن القول بتغّير ما كانت عليه النسوة من صلات، وما قد يتناولن من أحاديث وما قد يقمن به من زيارات، كنت ترى الواحدة منهن تحرص على الاستفسار عما تطبخ جارتها، وأسلوبها بكل ما تُعد من طعام أو شراب ومن ثم التساكب لتتلون مائدة الإفطار وكانت النسوة لا ينسين المباركة بحلول هذا الشهر، وكان التبريك لعميد الأسرة أمراً ضرورياً والتالي الارتقاء على مائدته باليوم الأول من الشهر، أما الزيارات بين هذه الأسرة والأسر الأخرى فغالباً ما تكون في نهاية الأسبوع الأول من الشهر، كما تقوم النسوة، وأحياناً الأسرة بكاملها بزيارة الأسر المفجوعة بفقدان عزيز عليها، وخاصة الأهل والجوار، وذلك على سبيل المواساة والمشاركة بالأحزان.
ولا تنسى الواحدة منهن، وخاصة المسنّات، القيام بزيارة المقبرة عصر اليوم الذي يسبق حلول شهر رمضان مصطحبة معها النواشف من المآكل كالصفيحة وأقراص الكبة والبلح والزبيب توزعها حسبة لله.
وإذا كان الرجال يمارسون عملهم كالمعتاد في أيام هذا الشهر، فإن الكثير منهم من لا يباشر عمله في الصباح الباكر، وإنما يتأخرون إلى وقت الضحى لأنهم يقضون جانباً من الليل بعد الإفطار بحضور حلقات الذكر أو متابعة فصل أو (بابه) من فصول كركوز وعيواظ التي كانت تقدّم في مقاه متعددة بدمشق بأمسيات شهر رمضان.
وكان من أوائل الكركوزاتية في ذلك الحين من آل حبيب بما يعالجون من مواضيع تتصل بحياة الناس وتطلّعاتهم، ولكل منهم متابعون يحرصون على مشاهدتهم.
وعلى ذكر مأكولات شهر رمضان، يجدر بنا الإشارة إلى ظهور مآكل بهذا الشهر، وخاصة الحلويات، ومن ذلك ما يعرف بالجرادق والكنافة المغشوشة بالقشدة والفستق الحلبي وكذلك النهش، وهو نوع من حلويات النمّورة.
فضلاً عن أنواع الخبز المشروح والمنقوش وما يعرف بمشطاح الجمل كذلك الخبز المعروف بالقشلميش والحليب والسكر.
ومأكولات أكثر من أن تعدد لتنوعها وتفنّن سيدة البيت في إعدادها، وغالباً ما تكون من المآكل التي تستغرق وقتاً في إعدادها، كأنواع الكبب والقَشّة من رأس الخروف والمقادم وكذلك السجّقات والحفاتي، والسنداوة والقباوة، ولا ننسى أنواع الفتّات وخاصة بالمقادم والتساقي… أما الفول المدمّس فله مكان الصدارة على مائدة رمضان ولا تكاد تخلو مائدة منه، ويزيد في تنوع مائدة رمضان ما كان من أمر السكبة بين الجيران على سبيل اشتهاء المرأة جارتها من جهة، والتباهي على هذه الجارة والتعالي.
ولا ننسى ما كان للمرطبات إفطار رمضان كالتمرهندي وشراب محلول قمر الدين والتوت الشامي، أما شراب عرق السوس، فلا تكاد مائدة تخلو منه.
وهم بهذا التنوع من مآكل مائدة رمضان لا ينسون الآخرين ممن ضاقت بهم سُبُل الحياة، كانوا لا يتوانون عن إرسال الطعام لهم أو دعوتهم إلى مشاركتهم إفطارهم هذا اليوم أو ذاك.
وأذكر على سبيل المثال، أن منذ فترة ليست بالبعيدة أن أسرة جلست على مائدة الإفطار بانتظار حلول وقت الإفطار، فإذا سائل يطرق الباب ويقول إنه وأسرته صائمون وليس لديهم ما يأكلون لإفطارهم، فإذا بطعام هذا الإفطار يكون لدى الأسرةُ طالبة المساعدة وتدبُّر أصحاب البيت بما تيسّر، بما ينطبق مع قوله تعالى:
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصَاصَة)
وهذه الظاهرة متأصلة في السلوك الدمشقي وقد حدثنا ابن طولون الصالحي في كتابه المروج السندسية بتاريخ الصالحية عن حواصل المؤن التي كانت تزدهر بها الصالحية مما يُقدّم بشهر رمضان للفقراء والمعوزين.
وكان أصحاب السلطة والجاه ومن يلوذ بهم على درجة عالية من أعمال البر بشهر رمضان، وكانت ولائم الإفطار للمعوزين والطارئين من التقاليد المعروفة برمضان، وكان لهم من يقيم ولائم الإفطار بالمساجد، وما لبثت أن انتشرت بالزوايا والتكايا وكان آخر ما بقي منها ما كان بالتكية السليمانية وتكية الشيخ محيي الدين.
أمّا ما كان من أمر سهرات النسوان في ليالي شهر رمضان، فحدث ولا حرج، لما كان يطرح في هذه السهرات من أزجال وأقوال وحكايات وأفعال تأخذ بالألباب، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل عليه المرأة من طلاقة لسان وحسن ابتكار وتنميق في أقوالها، ما يعبر أصدق تعبير عن خلجات النفس مما يعجز الوصف، وخاصة ما كان بين المتحابين من حواريات زجلية، فضلاً عما كانت الواحدة منهن من مقدرة على ارتجال ما يناسب الموقف من أزجال تعبّر عن الموقف الذي تعايشه.
ومعذرة إذا عاودت الحديث عن الولائم التي تقام في شهر رمضان من أن الدولة العثمانية كانت تقيم مثل هذه الولائم ولكن الطريف في ذلك أنها كانت تعطي من يحضر هذه الولائم مبلغاً من المال يعرف باسم: «ريش كراسي» وهذا المبلغ يدفع لكل من حضر طعام ذلك الإفطار أجر أسنان ذلك المدعوّ على مضغ ذلك الطعام.
وحري بنا في نهاية هذا البحث الوقوف عند مسحر رمضان وما كان له من دور في إيقاظ الناس إلى سحورهم لم تكن الوسائل الحديثة من الساعات المنبهة والإذاعة وغيرها من وسائل الإعلام متوافرة بتلك الأيام.