بريطانيا والعالم
| بنت الأرض
لا شكّ أن تصويت الشعب البريطاني للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، قد أصاب العالم بصدمة يحاول الجميع أن يتفهّم أسبابها ونتائجها ليس على المملكة المتحدة وحسب، وإنما على أوروبا والعالم برمّته. صحيح أن المملكة المتحدة لم تكن عضواً مؤسساً في الاتحاد الأوروبي، وصحيح أيضاً أنها لم تنضم إلى منظومة اليورو أو الفيزا الموحّدة الشينغن، ولكنّ الصحيح أيضاً أن الطبقة الحاكمة في بريطانيا وعلى رأسها دافيد كاميرون قد راهنت على البقاء داخل أوروبا، وقادت حملات إعلامية كلّفت ملايين الجنيهات الإسترلينية من أجل إقناع الشعب البريطاني بأهمية البقاء داخل هذا الاتحاد، ومع ذلك فقد أتت النتائج عكس ما يريدون، وما يتوقعون، واضطر رئيس وزراء بريطانيا للإعلان عن استقالته فوراً بعد إعلان نتائج هذا الاستفتاء لأنه كما قال «ليس الشخص المناسب ليقود عملية الخروج من الاتحاد».
الملاحظة الأولى على هذا الموقف والقرار، هي أن النخبة الحاكمة في بريطانيا لم تكن على تواصل مع نبض شارعها وإلا لما قامرت بهذا الاستفتاء، ودفع ممثلها حياته السياسية ثمناً له. وهذه الملاحظة لا تنطبق فقط على السياسات المتعلقة بالاتحاد الأوروبي، ولكنها تنطبق أيضاً على سياسات أكثر خصوصية في الداخل البريطاني وأكثر اتساعاً على مستوى العالم برمّته. إذ إن معظم المحللين أكدوا أن نتائج الاستفتاء هي أولاً وقبل كلّ شيء، تعبير عن رفض الطبقات الوسطى والمهمّشة لسياسات النخب الحاكمة البريطانية والأوروبية التي تعيش في برجها العاجي المنفصل عن قواعدها، وبهذا فإن نتائج الاستفتاء البريطاني تشبه إلى حدّ ما صعود ترامب في الولايات المتحدة كمرشح للرئاسة الأميركية وهو القادم من خارج المؤسسة الحاكمة، ليكون بذلك تعبيراً عن التمرّد على المؤسسة الحاكمة بغض النظر عن استجابة وجوده لمتطلبات الشارع الأخرى. المهم هنا بالنسبة للشعوب هو قول «لا» لأساليب وفحوى وإجراءات وطرق الحكم، أما عن شكل الحكم القادم وصفاته وتبعاته فهذا ما سوف يتم التعامل معه ومواجهة تحدياته لاحقاً.
لست هنا في صدد أن أحكم أيهما سيكون خيراً للشعب البريطاني، البقاء ضمن الاتحاد، أم مغادرته، لكني بصدد تحليل النتيجة على أنها تعبير أيضاً عن تصاعد العنصرية ربما ليس فقط في بريطانيا وإنما في بلدان أوروبية أخرى، وليس فقط ضد العرب والمسلمين، وإنما ضد كل من ليس من أصول محلية، وفي هذه الحالة بريطانية، وقد يكون لهذه النتيجة ارتدادات اجتماعية خطرة على أسلوب وطبيعة الحياة في بريطانيا وغيرها أيضاً. إذ إضافة للنزعات الانفصالية التي عبّرت عنها اسكوتلندا وإيرلندا مباشرة بعد إعلان نتائج الاستفتاء فإن هناك الملايين القادمين من دول أوروبا الشرقية سابقاً إلى بريطانيا والذين دون شك اعتراهم الخوف من مستقبلهم القانوني والتعليمي في المملكة المتحدة. الخوف هنا كلمة مهمة جداً لأن هذا هو ما يعبّر عنه هذا الاستفتاء:
الخوف من اللاجئين، والخوف من المهاجرين، والخوف من المسلمين، والخوف من العرب، والخوف من الآخر أياً يكن هذا الآخر، حتى لو كان أوروبياً، والتوجّه إلى الانطواء القومي وإغلاق الحدود والتشدد في التواصل مع الآخرين. أي عالم هذا الذي خلقته أدوات التواصل الحديثة والسريعة وفتح الأسواق والتجارة الحرّة بين البلدان؟ أم إن أدوات التواصل قد ترافقت مع مضامين عنصرية واستعلائية من حضارة نحو الأخرى، ومن شعب تجاه الآخر، ومن صنف من البشر ضد الصنف الآخر؟. وقد يجيب أحدهم أن الإرهاب وأخطاره قد شكّلا عاملاً مهماً في بثّ هذا الخوف ومحاولة الانطواء هذه.
والجواب هو أن التعامل مع الإرهاب هو الخطر على الجميع وليس الإرهاب بحدّ ذاته فقط.
أي إن المحتوى الفكري الذي تبثّه وسائل الإعلام الغربية ومراكز الأبحاث والذي يقسّم العالم إلى أخيار وأشرار وإلى مناطق خصبة للإرهاب وأخرى دون ذلك، وإلى بلدان جديرة بالثقة حتى لو امتلكت سلاحاً نووياً، وأخرى غير جديرة أن تحكم ذاتها وبحاجة إلى وصاية غربية، أي إن هذا المحتوى الذي في جوهره شكّل ظاهرة استعلاء غربية على بقية العالم هو المسؤول عن نتائج هذا الاستفتاء، وعن كلّ التبعات القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى لهذه النتائج. وللتذكير فقط، فإن خطر النازية لم يبدأ بحملات كراهية ضد العرب والمسلمين ولكنه بدأ بحملات كراهية للآخر السياسي فالعرقي والديني في ألمانيا أولاً، ثم امتدّ في أوروبا على حدّ سواء. أي إن النخب الحاكمة الغربية ربما لم تنتبه إلى أن السموم التي يحملها إعلامها ضد حريات وسيادة ومستقبل البلدان الأخرى قد تترك آثاراً خطرة على شعوبها هي، وقد تحدث تحولاً في بلدانها هي بطريقة لم تخطط لها ولم تشتهها أبداً. أي إن الانفصام في عقل النخب الحاكمة الغربية بين عالم واحد سريع ومتواصل ومنفتح وبين منظومتين من القيم واحدة للآخر، وأخرى لنا، لم يعد ممكناً على الإطلاق. ولا بدّ أن تلقّن نتائج الاستفتاء البريطاني العالم الغربي برمّته درساً مهماً ومفيداً وهو أن العالم كتلة واحدة، ولا يمكن لقوات أن تدعم الإرهاب في حلب والرقة وتبقى في منأى عنه في انكلترا وفرنسا وأميركا وبلجيكا.
هل تدفع نتائج هذا الاستفتاء النخب الغربية كي تحاول أن تكون أقلّ نفاقاً وأكثر صدقاً في التعامل مع الملفات الداخلية والإقليمية والدولية، وأقل تناقضاً مع ذاتها ومع القيم التي تتحدث بها والتي تناقض كلياً أعمالها على أرض الواقع؟