حكاياتنا الشعبية الأصل والجذور … تصوير واقعي لأرضية ميلودرامية الانفعال
| منير كيال
لا بد لنا عند الحديث عن الحكايات الشعبية، من العودة إلى أصل هذه الحكاية وتكوينها، حيث إنها من أقوى فنون الأدب الشعبي على البقاء، وهي تعود إلى المراحل الأولى من نشوء الإنسان، وكان لدى أغلبية الأمم والشعوب حكايات تمتد جذورها إلى أزمان سحيقة. فقد لجأ الإنسان إلى الحكاية، حكى بها ما كان يرى، وما كان يتوهم أو يعتقد، حتى إن من الشعوب من جعل الحكاية على شكل صور ورموز محفورة على جدران الكهوف التي كان يعيش فيها، قبل أن يعرف الكتابة.
بداية الاهتمام بالأدب الشعبي
وهذا ما دفع العديد من الباحثين والدارسين بالتراث الشعبي إلى الاهتمام بالحكاية الشعبية التي عرفها الإنسان وتعامل معها منذ القدم. فمن هؤلاء من عمل على دراسة محتوى الحكاية للوصول إلى الأنماط التي تندرج بها، ومنهم من قال بارتباط الحكاية بالحياة وصولاً إلى ما تتعرض له هذه الحكاية من أسباب الحياة وأحداثها.. كما أن ما كان من أولئك الباحثين والدارسين من عمد إلى رصد الكثرة والتنوع في محاور الحكاية الرئيسية، وبين شخوص الحكاية ووظائفها، وربط ذلك بحكايات عدد من الشعوب، ومن ذهب إلى التمييز بين أشكال الحكاية وصولاً إلى إطلاق تسميات خاصة بكل من هذه الأشكال التي كان منها الأسطورة والسيرة وحكاية الحيوان وحكاية الخوارق، كذلك الحكاية الخرافية والهزلية والحكاية اليومية.
ومن ثم عقدوا موازنات بين أشكال الحكاية باعتماد جزئيات الحكاية ومحتوياتها وعلاقة ذلك بمجموع الحكاية، ذلك أن وظائف الحكاية ليست على درجة واحدة من الأهمية. فهنالك وظائف تمهيدية تبدأ بها الحكاية. ثم تأتي وحدات الحكاية الوظيفية، لأن الحكايات التي يعيش المجتمع أحداثها، إنما هي حكايات تمثل جوانب الحياة حلوها ومرها: بما كان يتخللها من غمز ولمز على سبيل تقويم ما اعوج من سلوك أو تعامل.. طالبة من المستمع للحكاية بالابتعاد عن كل ما يخالف الوجدان الجمعي من أعراف.. أكان ذلك في موضوع الحكاية أم في محتواها..
ولعلنا نخلص من ذلك إلى أن موضوع الحكاية الشعبية واقعي الأرضية، ميلودرامي الانفعال والطابع، وهي مستمدة من الحياة اليومية، للتعبير عن حياة الناس بأسلوب من الإمتاع والمؤانسة. إنها تصوير لما جاشت به النفوس من أصداء الخوف والقلق، وقد تخرج هذه الحكاية عن الواقع المعيش لتصور عالم الإنسان كما هو عليه من هيئات قد تؤدي إلى تداخل الحياة الواقعية مع التصورات الخيالية، فيأتي سياق الحكاية بما ينسجم مع مفاهيم الناس ومنطلقاتهم المعيشة.
الحكاية أشكال ومضامين
ومن جهة فإن من الممكن القول إن الحكاية الشعبية في أشكالها ومضامينها قد تحكي مشاعر ومواقف جماعية، بحيث يعتبر أحد الشخوص بمنزلة تُسند إليه من خلالها أعمال يعجز عن القيام بها الشخوص الآخرون في هذه الحكاية، فيكون ذلك الشخص المسند إليه أو المناط به تلك الأعمال دور البطل بتلك الحكاية، وبالطبع فإن القيام بتلك الأعمال المنوطة بالبطل تجعل له قوة خارقة لا تكون للآخرين شخوص الحكاية، ذلك لأن نجاح الحكاية في إيصال أعمال البطل إلى المتلقين يجعل الحكاية على درجة من القبول لدى المتلقي. لأن عالم الحكاية الشعبية عالم رحب تتفاعل من خلاله عناصر الحكاية وأحداثها من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى مجتمع، من دون حاجز مكان أو زمان أو حائل تبعاً للظروف التي تنشأ فيها الحكاية.
وهكذا نجد أن من الحكايات ما تختار شخوصها بل أبطالها من البيئة المحلية فتعمد هذه الشخوص إلى مشاركة الوجدان الجمعي بمشاعره وأحاسيسه.
البطل والأسطورة
وعندما يأخذ البطل في الحكاية دوراً خارقاً، فإنه يمحو البعد والزمن ويجنح إلى التسطح، مبتعداً عن الحياة. وعلى نحو من كثرة الحركة ومن ثم فإن الحكاية تقرب البطل من البيئة وتطبعه بطابعها، وبذلك تجعل الحكاية من العمل الخارق أداة تشد المتلقي إلى الحكاية وإثارة اهتمامه كما إن الحكاية تحرص على تماسك أفرادها، ومن ثم تماسك الأسرة، وقد عكست الحكاية هذا السلوك لأن الجماعة تلتزم به.. ولذلك نجد أن الكثير من الحكايات تدعو دعوة صادقة، ولو من طرف خفي إلى تماسك الأسرة وبر الوالدين، ومن جهة أخرى لا ننسى ما للمرأة العجوز من دور بهذه الحكاية وأسلوبها بالتحايل في تقريب المحبين، وكذلك الأمر في حرصها على تأكيد سيادتها على البيت، كما تأخذ هذه العجوز دور الشمطاء الماكرة في حبك المكائد.
وفي ضوء ما ذكرنا يمكن القول بمنهج الحكاية الشعبية للتعبير عن فكر وحياة المجتمع، ورؤيته في تفسير ظواهر الكون، ومن ثمَّ تجسيد ملامح المجتمع وأحاسيسه وموقفه من الحياة في إطار الأسرة والحي والمجتمع في إطار حبكة متكاملة الشخوص والأحداث والنهاية.
لذلك ارتبطت هذه الحكاية بلغة الحياة اليومية فاستوعبت المثل والطريف والخارق واستهدفت التسلية والترفيه استهدافها للتوجيه. كما تدعو الحكاية الشعبية إلى الأصالة بالسلوك وإبراز العيوب التي تتنافى مع العرف لكونها تحاكي الإنسان في غمار الحوادث التي يعيشها، وتجسد الصراع بين الحاكم والمحكوم، كما تجسد الرغبة في جموح الجميع إلى حياة هانئة لا سيد ولا مسود، وهذا ما يجعل المتلقي يتأثر بما في الحكاية من شخوص وأحداث، ويجعله يتمسك بالقالب الاجتماعي ولا يخرج عنه.
الحكاية والقيم الاجتماعية
فضلاً عن ذلك فإن للحكاية هذه الدور البارز في تأكيد القيم الاجتماعية التي يراها المجتمع السبيل إلى عيشة هانئة، وإذا كان بالحكاية بعض الأوهام كاستجلاب الخير عن طريق قوى خارقة والاستعانة بالرقى والتمائم فإن ذلك دلالة على الجهل.
ومن جهة رواية الحكاية الشعبية، يمكن القول: إن رواية هذه الحكاية موهبة لا تتأتى لكل مرء، لما تتطلب من امتلاك الموهبة والمقدرة على شد المستمعين المستحقين وإقناعهم بسياق الحكاية، وتعايشهم مع أحداثها. كان الناس في أيامنا بأوائل العقد الثالث من القرن العشرين يتحلقون في ليالي الشتاء الطويلة، والقارصة حول منقل (موقد) يتقد به الجمر، وقد يجتمعون في ليالي الصيف بمشرقة الدار يستضيئون بضوء القمر يصغون إلى الجدات أو الأمهات للاستماع إلى حكاية تجذبهم بسحرها، وقد تعلقت عيونهم بالمحدثة، حتى لكأن على رؤوسهم الطير، يرقبون في ذلك النبرات والكلمات بما فيها.. فتنطبع بها أسماعهم مع ما يصاحبها من الإيماءات ويشدهم حبهم معرفة ما تنتهي إليه الحكاية، لاستنباط المغزى الذي ترمي إليه الحكاية وإدراك الفكرة التي تعالجها، والأمور الخلفية التي تطرحها، فضلاً عما قد تثيره الحكاية في نفوسهم من حب روح المغامرة، وحبهم روح الفكاهة، والدعابة والمرح.
العلاقات بين الناس
كانت راوية الحكاية تلحظ التطورات على علاقات الناس ومعاناتهم كما تلحظ أعمار مستمعيها وموقفهم من موضوع الحكاية، فتعمد إلى الاختصار أو توليد أحداث بالحكاية، بل قد تحاول توليد حكاية جديدة بصياغة جديدة وبناء أحدث يواكب ما عليه المستمعون إلى الحكاية مع المحافظة على العناصر الأصلية للحكاية وقد يدفع الاستطراد رواية الحكاية، فتنتقل من حدث إلى حدث بشكل يربط عناصر الحكاية بيسر وجزالة وانسجام يدل على قدرة التعبير الشفاهي في شد المتلقي وجعله على قدر كبير من التسليم بما جاء في الحكاية، ذلك أن هذه المقدرة على التعبير هي التي تحدد العلاقة الفنية بين أحداث الحكاية، ومن ثمَّ فإن ذلك يؤدي إلى التلاقي بين راوي الحكاية والمتلقي، من دون حواجز الصنعة أو التكلف، ما يجعل استساغة الحكاية من جانب المتلقي استساغة طوعية، لأن أسلوب تقديم الحكاية له التأثير الأكبر في إعطاء الحكاية قيمتها الفنية إلى جانب النص الذي يخاطب المتلقي.
لذلك فإن دور الحكاية بمفهومها المتوارث لحياتنا المعاصرة أخذ بالتبدد والتلاشي نتيجة للتبدل الذي حصل بحياتنا المعاصرة، وهنا وضع يتطلب قيام الباحثين بعمل من شأنه جمع التراث الشعبي ومن ذلك الحكاية للتعرف على الأطر والمعطيات التي كانت تنظم حياة مجتمعنا والرواسب التي خلفتها في حياتنا المعاصرة.