Site icon صحيفة الوطن

أسامة أنور عكاشة والإحياء

| إسماعيل مروة

نعرف أسامة أنور عكاشة من خلال إبداعاته الدرامية، فهو صاحب أول عمل درامي أحدث ضجة فكرية إضافة إلى براعته الفنية، (الراية البيضا) هذا العمل الذي كان قفزة نوعية في الدراما المصرية والعربية، ويكاد أسامة أن يكون أول درامي يضع هذه الوجبة الدسمة من الفكر في عمل درامي واحد، ولكن السبب الذي جعل أسامة أنور عكاشة بهذا العمق أنه لم يأت من وسط الدراما والتمثيل، فهو صاحب تجربة إبداعية قصصية مهمة، ومن دون كتاب القصة البارزين في ستينيات القرن العشرين، وقد بلغ مدى كبيراً جعل الأستاذ الدكتور سيد حامد النساج في تأريخه للقصة القصيرة يقف طويلاً عند أسامة أنور عكاشة، ويبشر بكاتب من الطراز الفريد أدباً ولغة، وقد استمر أسامة وأخذ التقدير والجوائز عن أعماله القصصية، ولكن التحول إلى الدراما جاء في مرحلة لاحقة، فقد قال لي أسامة: كنت أجلس مع مجموعة من الكتاب الكبار ونتحدث في الأدب والقصة، فقال لي أحدهم: إن أردت أن تحيا حياة لائقة بعيدة عن الفقر فعليك بالدراما وكتابة السيناريو! وعندما اعترضت على رأيه قال لي: هي أفكارك ذاتها أكتبها للدراما، فأنت بذلك تحقق عائداً مادياً يليق بالأدب، وفي الوقت نفسه تصل آراؤك وأفكارك إلى الملايين، سواء كانوا لا يقرؤون أم لا يجدون وقتاً للقراءة، في الدراما يمكن أن تصل إلى كل المستويات، ولن تكتفي بقراء الأدب الذين يجلسون في المقاهي.. يقول أسامة وكان ذلك.. استطاع أسامة أنور عكاشة أن يشق في الدراما طرقاً لم تكن معروفة من قبل، وأن يترك بصمات في الدراما العربية لا يمكن أن تنسى، وسلسلته المتفوقة (ليالي الحلمية) تشهد على شخص مختلف في الكتابة، فالأجزاء تتوالى والحبكة في أعلى مستوياتها، لأن كاتبها روائي وضع في ذهنه البداية والنهاية، ولم يعتمد على نجاح الجزء الأول، وإنما كانت خطته الروائية محكمة، فلم يصبها الترهل والضعف، ولا يستطيع الناقد أن يفضل جزءاً على آخر، بل إنه انتظر سنوات لإصدار الجزء الأخير حتى تفرغ المخرج إسماعيل عبد الحافظ له كي يحافظ على مستوى العمل، ولأن فكره الروائي كان منجماً، كان يقدم عملاً لا يقل عن ليالي الحلمية، فقدم «أرابيسك» و«زيزينيا» وفي أعمال عديدة له من «الراية البيضا» إلى زيزينيا كان أسامة أنور عكاشة وفياً للبحر والإسكندرية وكذلك قدّم «النوّة» وببراعة ابن البحر الذي استعار مفردات البحر ليقدم أعمالاً مهمة للغاية، ويستفيد من الرموز التي من الممكن أن يقدمها البحر له.
هل سأل أحدنا عن الأسباب التي جعلت أسامة متفوقاً؟
أسامة كان كما أخبرني يوظف ورشة لكتابة السيناريو، يعلم ويستفيد، وخاصة بعد أن أصبح علامة في الدراما، وهو يقول ذلك، وفوق ذلك إن أسامة لم يتخل عن القصص والرواية، فبقي حتى أخريات أيامه يصدر المنتوج الورقي، ولم يتنازل عنه، وله رواية ورقية (وهج الصيف) إضافة إلى تاريخ من النشر الورقي، والعلاقة الوطيدة مع المنتج الورقي أبقت جذوة التوقد الأدبي في أوجها، إضافة إلى ذلك، فقد كان أسامة أنور عكاشة وفياً لآرائه، فلم يقدم أي عمل من أعماله من دون أن تحوي أبعاداً فكرية عالية المستوى، لأنه آمن بأن الدراما يمكن أن تقدم الوعي أكثر من أي شيء، فهو يتناول الأجيال المتعاقبة، ويعرض للفساد والانفتاح، ويشير بإصبعه إلى الفساد، ويتحدث من دون أن يعترض عليه أي رقيب ذاتي، وحين يعترض الرقابي الخارجي يبقى على موقفه، ليعود الرقيب الخارجي بعد مدة من الزمن ويقول: كان أسامة أنور عكاشة على حق!
كان أسامة حاداً في آرائه كما كان حاداً في دراماه، فكما كان صادماً في الدراما والقصة والرواية كذلك كان صادماً في آرائه التي كانت تخرج عن تجربة طويلة.. لقد كان عاشقاً لسورية إلى درجة لا توصف، ويداعب محدثه وهو يقول: حلوين الشوام، أحلى منا، إحنا سمر زيادة، يا أخي الشوام غير شكل.. وذات يوم كنا في بيته في طريق مصر إسكندرية الصحراوي اتصلت به إذاعة دمشق لتحدثه في ذكرى الوحدة، وعلى الرغم من انشغاله الشديد وضيوفه أعطى الإذاعة اهتمامه من وقته، وهو يقول: «دي دمشق مش أي حاجة» وطرّز هذا الحب في عمله الذي يعدّ من أواخر أعماله (امرأة من زمن الحب) فكان إلى جانب الدفاع عن الحقوق والمقاومة في زمن لم يكن غيره يفعل، كما كان في (ضمير أبله حكمت) مع التربية والتعليم في زمن ضاع التعليم وتماهت الحدود الفاصلة للتربية، في كل ما يقول كان واضحاً وكريماً، وحين طلبت منه أن يكتب للعزيزة «الشهر» لم يتردد أسامة أنور عكاشة كما فعل الراحل عبد السلام العجيلي.. وفي مهرجان دمشق السينمائي في دورته الأخيرة قبل الحرب كانت لنا أيام في دمشق مع أسامة الذي جاء ليومين فقط، ولم يترك فرصة لزيارة كل الأماكن التي يحبها في الشام، كان مريضاً وغير قادر على التجوال، لكنه كان يقول لا تهتم ولا ترد عليّ كأنني آخر مرة أزور دمشق، أريد أن أراها.
حقاً كانت زيارته الأخيرة لدمشق، وبعدها أثيرت حوله ضجة كبيرة بسبب آرائه في الدولة الإسلامية والاستبداد، حين قدم قراءته في شخصيات إسلامية، فلم يبق أحد لم يرد ويهاجم، لكن أسامة احتفظ بآرائه ولم يتنازل عنها، وغادر بعد أن طرح آراءه، وكل الذين هاجموه ذات يوم عادوا ليرددوا ما قاله، ولكن الفارق الوحيد أن أسامة أنور عكاشة كان يقول رأيه هو، رأي الحياة والتجربة والقراءة، ويدافع عنه ويدفع ثمنه، وهم كانوا يأخذون آراءه ولا ينسبونها له، ولو جوبهوا فهم غير قادرين على الدفاع عنها.
لم يكن أسامة صاحب أيديولوجية، وإن كان يتطابق في مواضع مع هذا الرأي أو ذاك، وكان التزامه الوحيد هو الحرية في طرح الآراء، وهل ننسى موقفه في أحاديثه الأخيرة عن الوهم الكبير حول الأمة؟ ذات يوم حدثني طويلاً عن خصوصية الأوطان، واستعمل ألفاظاً حادة واضحة «أهل الخليج لا يشبهون المصريين» هم شيء ونحن شيء آخر، حياتهم غير حياتنا، وأحلامهم غير أحلامنا، ودخل يومها في حديث عميق عن الرأي والحرية والعقائد، طرح بعض هذه الآراء، وآراء أخرى كثيرة رحلت معه.
قد لا أغالي إن قلت إن أسامة أنور عكاشة كان علامة خاصة ومهمة في الثقافة المصرية والعربية، ولا يقل بدوره عن عمالقة الرواية العربية، وزاد عليهم بآرائه السياسية والفكرية التي لم يجامل بها أحداً، ولعل وجوده في محطة طويلة من حياتي الثقافية كان من حسن حظي الذي سعيت إليه.. لم أكن لأتخيل أن ألتقي هذا العلم، وبتواضعه الجمّ وأدبه فتح لي آفاق القاهرة، وكانت بسببه جولات لا تنسى في القاهرة العظيمة.
دمشق التي تحبها يا أسامة الكاتب والإنسان تسأل عنك.. وها هي ترسل لروحك الطيبة التي تنوس في كل مكان أحببته وتركت فيه بصمة، وها هي خريطة حبك ترتسم في كل فكرة أردت منها الإحياء ولم يتم الالتفات إليها! وهل يملك ناقدوك الذين استيقظوا ذات لحظة للنيل منك ومن تراثك وآرائك الجريئة ليقولوا إن أسامة أنور عكاشة كان أبعد نظراً؟ هل يعترفون بأن امتداد تجربتك أوصلك إلى هذه الاستنتاجات الفكرية القوية والخطرة؟ وهل يبدأ مثقفنا من حيث انتهى الآخر لتبدأ رحلة الإحياء؟ وهل نبقى متمسكين برجم المتنورين لنكتشف بعد عشرة آلاف سنة أنهم كانوا على حق ولم نأخذ بآرائهم؟ قد تكون شهرتك في الدراما فوق كل شهرة لك أو لسواك، وخاصة بعد أن خططت طريقاً ومنهجاً ومدرسة، ولكنك في المسرح الجارح والقوي كنت متميزاً، وختمت المسيرة بمسرحيتك العلامة (الناس اللي في التالت) لترهص لما جرى بعد أكثر من عقد من الزمن، وفي رؤاك وفكرك كنت الأكثر جرأة في معالجاتك.
أسامة أنور عكاشة علامة لزمن آمن بالعقل والفكر، رفض الانفتاح والسوق، جابه السلام المنقوص، أشار إلى المخاطر كلها، ولم يكترث أن تقوم هذه المخاطر بتجاوزه ونقده وربما تجريحه، علامة للفن والفكر والدراما يحسن أن نقف عندها دوماً، لأنها منارة من منارات مصر الغالية، منارة كانت منفتحة على الجميع، ولم تكن مصرية بحتة، بل كانت وطنية بالانتماء، قومية باللغة، إنسانية بالهم الإنساني الذي طحن الإنسان فوصلنا إلى ما وصلنا إليه.

Exit mobile version