Site icon صحيفة الوطن

سفر في بحر الأبجدية

| عصام داري 

أحلى اللحظات التي أعيشها تلك التي ألجأ فيها إلى الأبجدية، أستجديها أن تجود علي بكليمات معدودات أنسجها من خيوط النور، ووريقات الزهور، هي لحظات أشعر فيها أنني في حالة خدر وسحر ومتعة، وخاصة عند ما أصطاد كلمة أو عبارة تصلح عروة جميلة في نسيجي الروحاني والخيالي.
مع الأبجدية الساحرة نسافر لمسافات شاسعة من دون أن نغادر مكاننا، الحلم يحملنا إلى كوكب بعيد سميته كوكب الحب، سكانه لا يتقنون إلا الحب والعشق، قاموسهم لا يحتوي على كلمات البغضاء والكراهية والأحقاد والثأر والقتل، ولا يعرفون اغتيال الجسد والروح، ولا سحق الأزاهير وقتل العصافير، الحلم يحملني إلى هناك هرباً من توحش من يظنون أنهم من فصيلة البشر.
الحلم الجميل ممنوع في أرض الكوابيس المرعبة، وفي زمن التوحش والغربان والغيلان، لكننا سنبحر في أحلامنا إلى آخر مدى، نعرف أننا لن نبلغ يوماً كوكب الحب الذي تخيلناه ونتوق إليه، لكننا سنعيش الحب الذي نصنعه لنا وللآخرين، رغماً عن الزمن الغادر والحظ العاثر.
نجهد الأبجدية أحياناً بحثا عن كلمة تنقذنا من التعثر في دروب الكتابة، ونعترف أننا نستنجد بالأبجدية عندما نعجز عن البوح، ونشعر بالعجز عن تصوير مشاعرنا على الورق أو بالكلام المباح.
أبجديتنا تأخذ بأيدينا حيناً، وتتركنا نختار في الكثير من الأحايين، فهي بحر شديد الاتساع، فيها عبارات الحب والغزل، وفيها الكراهية و«الزعل»! وفيها النثر والشعر والزجل، كل منّا يستعير من هذه الأبجدية ما يحتاج إليه للتعبير عن أفكاره وفلسفته، ورؤيته للحياة، وقبل كل شيء عمّا تحتوي نفسه من مشاعر وأحاسيس وعواطف وتناقضات، فنحن كتلة تناقضات لا تنتهي.
كتبت على جدار الزمن حكاية زهرة هربت من بساتين العشق وارتضت السكنى في مكان قصي بعيداً عن أعين الرقباء، لكل زهرة عطرها وأريجها وبهجتها، لكنها تتفق جميعاً على صنع الفرح ورسم لوحة من عبير تبهر الأبصار، وتطلق العنان لخيالات لا حدود لها.
خير جليس في الأنام صبية هاربة من قصور الحريم والتحريم والتجريم ومن السيّاف مسرور- كيف يكون السيّاف مسروراً! – فهذه لحظات ندفع من عمرنا ودمنا ثمنا للعيش فيها، و.. كم لحظة من أعمارنا المهدورة على بوابات الحزن ذهبت سدى من دون جليس أو أنيس يداوي جراحاً غائرة في عمق النفس والروح بلا طبيب ولا حبيب؟
نصف عمرنا التهمته الليالي، ونصفه الآخر ذهب في متاهات الحياة، ولو كنا منصفين لقلنا إننا نعيش بلا أي متعة وفرح وسعادة ما يعادل تسعين بالمئة من أعمارنا الحقيقية! هل تلاحظون كم نسرف في سنوات أعمارنا وخاصة في توافه الأمور.. ونشعل براكين الغضب والزعل والاعتذار والتسامح، وقديماً قالوا: من يعتذر كثيراً يخطئ كثيراً، فجربوا ألا تعتذروا كثيراً.
أعطوني عمراً إضافيا أقضيه في بيت، كوخ بعيد عن حضارة الإسمنت والكبت لأعوض ما فات، ولأحلق في سموات لا حدود لها، وأغوص في جلسات مع خير جليس، وأبحر في الأبجدية وانتظروا كلاماً ساحراً لم تخطه يد إنسان.

Exit mobile version