Site icon صحيفة الوطن

رصيد المكوث ما له وما عليه

| علي محمود محمد

للسلطة النقدية في أي بلد رؤى وإستراتيجيات معينة تسعى لتحقيقها وترى عند دراسة جدواها بأنها الحل الناجع لفترة ما، وهذا ما يعمل عليه مصرف سورية المركزي من خلال سعيه لتحقيق سياسة نقدية مستقرة واستقراراً في سعر صرف الليرة السورية واستقطاب السيولة خارج القطاع المصرفي (بشقيه العام والخاص)، طبعاً لا أحد ينكر أهمية ما يقوم به المصرف المركزي من جهود مهمة إلا أن هناك من يختلف معه في التوقيت، فالمعيار الفيصل الذي اشترطه لمنح التسهيلات المصرفية والذي عرف برصيد المكوث لاقى انتقاداً من بعض أركان الشريحة المستهدفة من التسهيلات المصرفية سواء أكانوا تجاراً أم صناعيين أم حرفيين، ففكرة رصيد المكوث كطريقة لجذب الأموال لدى شرائح المجتمع المختلفة والاستفادة منها في تمويل المشروعات هي فكرة غنية وتستحق الوقوف عندها ولها دور مهم في تعميق الثقافة المصرفية وتشجيع المجتمع السوري على فتح حسابات مصرفية حالاً ومستقبلاً والتحول تدريجياً نحو ثقافة الإيداع عوضاً عن ثقافة الكاش، وهذا من شأنه المساهمة في زيادة دقة القرارات الاقتصادية التي ستؤخذ مستقبلاً على صعيد السياسة الاقتصادية كلها من خلال استهداف أرقام تعبر عن الواقع بدقة سواء من ناحية تقدير حجم العرض النقدي أو الفجوة التضخمية أو لتساعد في سياسات استهداف التضخم وغيرها من السياسات المالية والنقدية.
ومن هنا كان تنويه الحاكم ليل أمس الأول في بوست مطول بأن تأجيل تطبيق شرط رصيد المكوث لغاية بداية عام 2019 (والصادر بموجب القرار رقم 489/16/ص تاريخ 20/01/2018) لهي فترة «أكثر» من كافية كي تشرح المصارف للمتعاملين لديها شروط هذا الرصيد، وأن تطبيقه بات بحكم المؤكد مطلع العام القادم.
في هذا الصدد وبعد ذكر محاسن رصيد المكوث كفكرة، يمكن القول بالتالي:
إن ما تشهده سورية من تحسن ملموس تدريجي على الصعيد الأمني ومع البدء بمرحلة إعادة الإعمار والحاجة الماسة للبدء بالعملية الإنتاجية فإن بقاء هذا الشرط على جميع القطاعات الاقتصادية قد يعوق متطلبات المرحلة الراهنة، فتطبيقه سيكون مجدياً بعد خروج الاقتصاد السوري من عنق الزجاجة والتي تتمثل بأولى درجات التعافي الإنتاجي والصناعي وليس في مرحلة الانطلاق بها، فحاجة البلد الآن تنصب على التركيز على المشاريع الإنتاجية والصناعية (وبالأخص المعامل والمصانع التي ما تزال قائمة وليست مدمرة دماراً كلياً) والقيام بتمويلها بهدف زيادة المعروض السلعي بأقرب وقت ممكن ولاسيما السلع الأساسية لتلبية احتياجات المواطن والتخفيف من فاتورة المستوردات والتي ستخفف بدورها الضغط على الموارد المحدودة من القطع الأجنبي وقد تسهم بخلق فرص عمل جديدة.
وهنا لابد أن نضرب مثلاً عن أهم 3 قطاعات يعتمد عليها الاقتصاد السوري وهي القطاع الصناعي والزراعي والتجاري، فهذه القطاعات تختلف عن بعضها ولا يجوز معاملتها بنفس المعاملة، فالقطاع التجاري مثلاً يمتاز بحركة السيولة الجيدة لديه على خلاف القطاع الصناعي الذي يعاني صعوبة توافر السيولة بشكل سريع فاستثماره يتمثل بالأصول الثابتة (بالجزء الأكبر) والتي تتطلب مبالغ كبيرة ودورة إنتاجه طويلة مقارنة بالقطاع التجاري هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وعند النظر للتفرع المصرفي في سورية نلاحظ فقر المناطق الصناعية السورية بفروع المصارف العاملة في القطر وهذا يعد من أكبر معوقات تحقيق فكرة الحاكم المتمثلة بالإيداع الأسبوعي أو الشهري لأرباح الصناعي، وهنا لا نلوم المصارف بذلك طبعاً فالحالة الأمنية حالت دون توسع الكثير من المصارف على مستوى القطر وليس المدن الصناعية وحسب.
كما أن الصناعي الذي بقي معمله أو مصنعه ويحتاج لإصلاح وترميم سيضطر لإنفاق كامل مدخراته على إجراءات الصيانة لمعمله ثم يحتاج لقرض لإعادة تشغيل هذا المصنع وشراء مستلزمات الانتاج، وهنا يجد نفسه عاجزاً على تحقيق مطلب رصيد المكوث بالمطلق، فعلى سبيل المثال، بلغ عدد ورشات الخياطة في محافظة حلب 35 ألف ورشة قبل الحرب، وتقول بعض الإحصائيات: إن ما تبقى منها الآن لا يتعدى الألفي ورشة، فهذه الورشات لن تستطيع العمل مع وجود شرط رصيد المكوث للأسباب التي ذكرناها، وينطبق هذا الأمر أيضاً على باقي أصناف الورشات.
وهذا الحال ينطبق على القطاع الزراعي أيضاً والذي تعمل به الطبقة الفقيرة لقاء سداد احتياجاتها المتزايدة، فتطبيق شرط رصيد المكوث عليها سيحول دون تطور هذا القطاع وعودته لسابق عهده ما يعني بقاء الفجوة قائمة بين الاحتياجات للسلع الزراعية والإنتاج الزراعي.
بالمحصلة، إن فكرة رصيد المكوث قابلة للتطبيق بعد مرور فترة على البدء بالإنتاج وتعافي الاقتصاد بأجنحته الثلاثة، أو على الأقل يمكن للسلطة النقدية أن تعفي القطاع الصناعي والزراعي مبدئيا من هذا الشرط نظراً للأسباب المذكورة أعلاه لفترة قد تصل لـ5 سنوات مع تحديد سقف المبالغ الممكن إقراضها لكل عميل (مثلاً 10 ملايين لورشات الخياطة، 15 مليوناً للمعامل الغذائية، 5 ملايين للمشروعات الزراعية، الخ.. )، أما القطاع التجاري فربما يتم استثناء بعض المجالات وتطبيق الشرط على باقي المجالات التجارية.
ومن ناحية أخرى فتطبيق رصيد المكوث على جميع القطاعات الاقتصادية قد ينجم عنه إحجام هذه القطاعات عن الاقتراض نظراً لعدم قدرتها على تلبية هذا الشرط وتأثير ذلك السلبي في المصارف العاملة «والتي صمدت في أعتى الظروف» وتحمّلها لأعباء الفوائد المدفوعة على الودائع دون أن يقابلها إيرادات كافية ما يؤثر في الخطة التشغيلية للمصرف سلباً في ظل وجود فائض سيولة جيد متاح للتوظيف.

 

Exit mobile version