Site icon صحيفة الوطن

التعليم العالي منفعة عامة أم سلعة؟ ومسؤولية من؟

| أ. د. وائل معلا

يعود مصطلح «السلع العامة» إلى آدم سميث الذي يرى أن واجب الدولة يحتم عليها إقامة وصيانة الأشغال العامة التي لا تخضع لمبدأ الربح، والتي تعمم فائدتها على جميع أفراد المجتمع، فلا يمكن حجب الاستفادة منها عن أحد وإن لم يدفع ثمن هذه الاستفادة. ومن ثم فإن فائدتها تعم المجتمع بأسره. من هذا المنطلق، أصبح مصطلح «السلعة العامة» ينطبق على التعليم العالي. لكن الأمر لم يقف عند هذا، إذ إن التعليم العالي يعامل في كثير من البلدان معاملة «السلعة الخاصة»، وهو مفهوم يشمل كل سلعة لا يستطيع كل الناس الاستفادة منها، بل يمكن أن تحجب عن الآخرين لارتفاع ثمنها.
والواقع أنه حيثما ينظر إلى التعليم العالي من منظور اقتصادي، يتمّ التعامل معه على أنه سلعة. لكن تبقى هناك تساؤلات مشروعة حول أي نوع من «السلع» هو؟ أهو «سلعة عامة» أم «سلعة خاصة»؟

تعزّز مفهوم التعليم كسلعة عامة منذ أن اعتمد إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، إذ أصبح ينظر أيضاً للتعليم بشكل عام كحق من حقوق الإنسان. كما ازداد الطلب على التعليم العالي لتلبية احتياجات التنمية الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي أدى إلى زيادة كبيرة في الدعم الحكومي للتعليم العالي، وزاد في تعزيز مفهوم هذا التعليم باعتباره سلعة عامة.
ومع ذلك، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، ومع ظهور نماذج أعمال جديدة كالجامعات الخاصة الربحية، واعتماد طرق إيصال جديدة للتعليم العالي كالإنترنت (الشابكة) على سبيل المثال، إلى جانب زيادة الطلب على التعليم العالي وانخفاض التمويل الحكومي للجامعات الحكومية بسبب أولويات الميزانيات الحكومية، باتت عملية تصنيف التعليم العالي أكثر صعوبة وتعقيدا.
ونتيجة لذلك أصبح عدد أكبر من الناس، بمن فيهم بعض القادة التربويين وصناع السياسات التعليمية، يميلون بصورة متزايدة إلى التعامل مع التعليم العالي على أنه «سلعة خاصة» عوضا عن النظر إليه كسلعة مُتاحة ذات منفعة عامة.
وقد استرعى انتباهي مؤخراً مقال بعنوان: «نحو تعليم عال في خدمة الإنسانية»، نشِر في المجلة الإلكترونية البريطانية «عالم الجامعات» University World News، وتناول مفهوم التعليم العالي باعتباره سلعة خاصة أو خدمة عامة. مؤلفا البحث هما باتريك بليسنجر، وهو أستاذ مساعد في مجال التعليم بجامعة سانت جون في مدينة نيويورك، ومدير أبحاث رئيسي في الجمعية الدولية للتعليم والتعلم في التعليم العاليInternational Higher Education Teaching and Learning Association. والبروفسورة ماندلاماخانياMandlaMakhanya رئيسة جامعة جنوب إفريقيا University of South Africa.

على من تقع تكلفة التعليم العالي؟
إن الإجابة عن السؤال حول من يجب أن يتحمل تكلفة التعليم العالي تعتمد من المنظور الاقتصادي التقليدي على تحديد المستفيد من التعليم العالي: أهو المجتمع أم هم الأفراد؟ وبحسب هذه الفرضية الاقتصادية الأساسية، ينبغي على أولئك الذين يحصلون على المنافع أن يتحملوا حصة من التكاليف المترتبة عن توفير هذه المنافع والخدمات. هذه النظرة الاقتصادية التوجه للتعليم وفرت أيضاً أساساً صلباً للفرضية القائلة بضرورة أن يعامل الطلاب بوصفهم زبائن، وأن التعليم ينبغي أن يعامل كسلعة؛ فإذا كان التعليم العالي منفعة عامة محضة، فإن عبء التمويل يجب أن تغطيه الحكومة أو السلطات المحلية (أي الكيان الذي يمثل المجتمع). أما إذا كان سلعة خاصة بحتة، فينبغي أن يتحمل الطالب عبء هذا التمويل، لكونه المستفيد المباشر من هذا التعليم. ومن هذا المنطلق، يعدّ عائد الاستثمار في حقل التعليم العالي أمراً شخصياً بالدرجة الأولى، إذ الهدف منه أولا تطوير قدرة المتعلم على تحسين وضعه وتحقيق ما يطمح إليه، ثم جماعياً بالدرجة الثانية إذ تتحقق منفعة جماعية لكن بصورة غير مباشرة. ونظراً لأن للتعليم العالي خصائص خاصة وأخرى عامة على حد سواء، فإن البعض قد يجادل بأن عبء التكلفة ينبغي أن يتقاسمه كلا الطرفين، الفرد والمجتمع، وفي هذه الحالة يمكن اعتباره سلعة أو خدمة مشتركة، أو سلعة تمنح وفقا للجدارة merit good. لكن أصحاب هذا الرأي لا يزالون ينظرون إلى التعليم من منظور اقتصادي صارم.
وما يزيد الأمر تعقيداً أن الرسوم الدراسية ونفقات المعيشة في بعض البلدان ارتفعت ارتفاعا كبيراً في العقود القليلة الماضية؛ ففي الولایات المتحدة، علی سبیل المثال، بلغ إجمالي القروض الدراسية الممنوحة للطلاب كي يتمكنوا من متابعة دراستهم الجامعية 1.5 تریلیون دولار. ومن ثم، فقد باتت «عدالة» نظام من هذا النوع يحمًّل الكثيرين عبئا مالياً ثقيلاً من أجل الحصول على التعليم العالي موضع شك لدى الكثيرين. كذلك يشك كثيرون في مدى قابلية هذا النظام للاستقرار والاستمرار على ما هو عليه.
إن مشكلة الاختيار بين تصنيف التعليم العالي كسلعة عامة أو سلعة خاصة مردّها إلى أن الأمر يُنظر إليه من منظور التعريف التقليدي للعلوم الاقتصادية. إلا أن للتعليم العالي، كما أسلفنا، خصوصية وطابعاً إنسانياً. وتنبع خصوصيته من أغراضه وانعكاساته الإيجابية الواسعة النطاق في التنمية الفكرية والعلمية والحضارية والاقتصادية والاجتماعية. لذا، يبدو من المناسب أن تنطلق مقاربة تصنيفه من أرضية أشمل ومتعددة الاختصاصات، وألا تقيّد فقط بالمنظور الاقتصادي؛ ففي ضوء التطورات الجديدة في التعليم عن بعد، والتعلّم مدى الحياة، ودمقرطة التعليم العالي، ومبادئ الإنصاف والإدماج، يبدو من الأنسب أن ينظر للتعليم العالي من منظور إنساني وليس من منظور اقتصادي بحت.
فمن منظور اقتصادي، ينظر إلى التعليم العالي من منظور تحليل التكلفة والنفعcost-benefit analysis. أما من منظور إنساني، فيعامل التعليم العالي كحق من حقوق الإنسان يتجاوز المنظور النفعي. وبما أن النزعة الإنسانية تقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية وتقرير المصير، فإن المنظور الإنساني يمثل نظرة أكثر شمولية للتنمية البشرية، تأخذ بالحسبان الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والبيئية للتعليم العالي.

نحو مقاربة للتعليم العالي أكثر إنسانية
إن الأركان الأساسية التي تعدّ ركيزة المقاربة الإنسانية للتعليم هي: المساواة والإنصاف والإدماج. ويعدّ مبدأ الإنصاف والإدماج، من المنظور الإنساني للتعليم العالي، حجري الزاوية في نظام تعليم عال متنوع يتضمن أنواعاً مختلفة من المؤسسات، كالجامعات، ومؤسسات التعليم المستمر، والكليات والمعاهد التقنية، وكليات المجتمع، وكليات الفنون الحرة، وبرامج التعليم عن بعد. ويفترض في هذا النظام أن يلبي مجموعة واسعة من الاحتياجات المجتمعية والفردية. علماً أنه من غير المرجح أن يلبي نوع مؤسسي واحد جميع هذه الاحتياجات المتنوعة والمتغيرة لمجتمع تعددي.
ولضمان احترام مبادئ الإنصاف والإدماج في جميع أنواع مؤسسات التعليم العالي، يجب على هيئات الاعتماد والوكالات الحكومية والمنظمات التعليمية غير الحكومية توفير الإشراف والدعم اللازمين لضمان ممارسة الجودة الأكاديمية العالية والسلوك الأخلاقي.
يمكن إدراج التعليم العالي ضمن فئة «السلع المشتركة» لأنه يساهم في المصلحة العامة، وفي تمكين المجتمع كله، وتعزيز قدرته على العمل على نحو أفضل، كما يمكّن الأفراد من تحسين ظروفهم المعيشية. وهكذا يمكن تصنيفه ضمن فئة «السلعة المشتركة» لأنه يعود بالفائدة على الجميع.
إن مفهوم المصلحة العامة ليس جديدا، بل هو عميق في التاريخ، والفوائد التي يجنيها المجتمع في مجال التعليم معروفة للجميع، وهي لا تنحصر فقط في جوانب النمو الاقتصادي والابتكار وتحسين نوعية الحياة، بل تتعداها إلى جوانب أخرى لا تقل عنها أهمية مثل تنمية القدرات وملكات العقل، وتعزيز الإدراك والفكر النقدي، وتنمية المجتمع المدني والانخراط في العمل الجماعي.

في سورية…. التعليم العالي حق للجميع
وفي سورية، يظل الهدف الإستراتيجي الأول لقطاع التعليم العالي، بحسب ما ورد في رؤية التعليم العالي، هو «زيادة فرص الالتحاق بالتعليم العالي وإتاحتها للجميع وفق معايير الجدارة». ومن هذا المنطلق، لا ينظر إلى التعليم العالي في سورية كسلعة خاصة، وإنما كحق من حقوق الإنسان. كما لا ينظر إلى الطالب الجامعي على أنه زبون، بل ينظر إليه كصاحب حق في فرصة تعليمية من الضروري توفيرها له وفقاً لما يسمح به معدله في شهادة الدراسة الثانوية، أي وفق «معيار الجدارة»، وبغض النظر عن ميوله الشخصية وعن مدى حاجة المجتمع وتوفر فرص العمل له في الاختصاص الذي قبل فيه. لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الهدف الإستراتيجي الثالث لقطاع التعليم العالي هو «تعزيز المواءمة بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل»، وهذا يقتضي إحداث برامج واختصاصات تستجيب لاحتياجات التنمية المجتمعية وسوق العمل، وتطوير الخطط الدراسية والمناهج وتحسين مستوى التعليم التقني بما يلبي حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. علماً أنه لا أدلة تشير إلى القيام بأي دراسات موثوقة، أو إجراء إحصائيات يمكن الركون إليها عن المتطلبات الحقيقية للتنمية وحاجات سوق العمل من الاختصاصات المختلفة كي يصار لمواءمتها مع مخرجات التعليم العالي. ومن الضروري أن يتم ذلك بأسرع وقت خاصة في المرحلة القادمة، «مرحلة إعادة الإعمار» التي قد تتطلب التركيز على اختصاصات معينة علمية أو اجتماعية أكثر من غيرها. علماً أن هذه المهمة ليست مسؤولية التعليم العالي وحده، بل هي مسؤولية مشتركة لكل القطاعات التي عليها أن تجري دراساتها بهذا الشأن وترسل نتائجها إلى التعليم العالي لتقوم الجامعات لاحقاً وبناء على تلك النتائج الموثوقة بمواءمة مخرجاتها مع متطلبات التنمية.
لقد تنوّع قطاع التعليم العالي في سورية، وبرز استخدام أنماط تعليمية جديدة كالتعليم المفتوح والتعليم الافتراضي (الجامعة الافتراضية). كذلك دخل مقدمو خدمات تعليمية جدد إلى هذا القطاع، بعضها ذات طابع ربحي كالجامعات الخاصة التي تسعى لاستقطاب الطلاب باتباع خطط تسويقية، معتبرة الطالب زبوناً يجب إرضاؤه، الأمر الذي أبرز على السطح السؤال الأساسي الذي انطلقنا منه: هل التعليم العالي «منفعة عامة» وفق المنظور الإنساني، أم إنه «سلعة عامة»، أم «سلعة خاصة» وفق المنظور الاقتصادي؟
إذا اتفقنا على تصنيف التعليم العالي النظامي في الجامعات الحكومية ضمن فئة «السلع المشتركة» – وفق ما أوردنا من تعريف لهذا المصطلح- لأنه يعود بالفائدة على المجتمع بأسره أفرادا وجماعات، فهذا يعني أن مسؤولية تمويله يجب أن تكون مشتركة، وأن يتحمل متلقو هذا التعليم جزءا من تكاليفه. ولكن ذلك لا يعني إطلاقاً أن فرص الالتحاق بالتعليم العالي ستقتصر فقط على من يستطيع تحمل هذا الجزء من التكلفة، فهناك صيغ كثيرة لتقديم الدعم لغير القادرين على تحملها، وأهمها المنح الدراسية، والإعانات، والقروض الطلابية، وغيرها.
كما لا بد من البحث عن صيغ تسمح بالتشارك مع الدولة في تقديم الدعم لهذا القطاع لأهميته في عملية النهوض الشامل بالمجتمع. ولا بد من تطوير القوانين والأنظمة في هذا الاتجاه، بهدف تطوير إمكانيات الجامعات الحكومية، وتحسين خدماتها، وتعزيز قدراتها بما ينهض بعملية التعليم والتعلم ويدفع عجلة البحث العلمي الذي هو أساس التطوير المجتمعي بكل جوانبه.
إن المبرر الرئيسي لوجود مؤسسة للتعليم العالي هو أن تضطلع بمسؤولياتها من خلال تلبية الاحتياجات المعاصرة للمستفيدين منها أفراداً ومجتمعات. وهذا ما يحتّم على الكليات والجامعات أن تقيّم باستمرار أهدافها ومهامها، ومدى تأديتها لتلك المهام وتحقيقها لتلك الأهداف، والتقييم المستمر لفعاليتها في تحقيق النتائج التي وجدت من أجلها. وبما أن التعليم العالي سلعة مشتركة ومنفعة عامة، فهذا يعني ضمنا حق كل شخص بالتعلم طوال فترة حياته. ما يعني عدم جواز التعدي على حرية الإنسان وحقه في متابعة تعليمه مدى الحياة. وبالنظر إلى أن احتياجات المرء تتغير مع مرور الزمن، فإن ذلك يعني ضمنا ضرورة وجود نظام تعليم عال متميز يتيح، وبأسعار معقولة، لطالب العلم والمعرفة, أن يطوّر كفاءاته كي يواجه بفعالية أكبر الاحتياجات المتغيرة للحياة.

Exit mobile version