Site icon صحيفة الوطن

الحكواتي فنان القصة والحياة في تراثنا … بعض الحكواتية يتقن لغات أخرى لاستخدامها إذا ما كان بين الجمهور غير عربي

| أنس تللو

رجلٌ وحده ؛ تستمعُ إليه فتشعر أنك تستمع إلى عدة فنانين ضمن مسرح مجهز بأحدث التجهيزات الفنية الحديثة.
رجلٌ قادرٌ وحده على أن يصور لكَ عوالمَ زاهيةً تثيرُ انفعالاتك إلى أقصى درجة… بل إنه يستطيع أن ينقلك إلى تلك العوالم لتشعر وكأنك غدوت جزءاً منها يعيش بين أهلها ويتفاعل معهم.
رجلٌ وحده كان قادراً على أن يجعل المستمع يسرح في خيال بديع ويغوص في عالم القصة التي يستمع إليها متفاعلاً معها بأدق التفاصيل.
رجلٌ كان الاستماع إليه متعة لا تضاهيها متعة.

في أواسط القرن العشرين وقبل انتشار التكنولوجيا بشكل واسع لم يكن هناك من مكان لتمضية الوقت الطويل سوى المقاهي المنتشرة في دمشق والتي كان عددها ينوف على المئة، ولم تكن هناك من تسلية ممتعة يلجأ الصائمون إليها بعد الإفطار سوى الاستماع إلى تلك الحكايات القديمة والسيَر الممتعة تقدمها لهم تلك الشخصية العظيمة (الحكواتي)… ولم يكن هذا الحكواتي كما هو شائع لدى البعض مجرد رجل عادي يحفظ الحكايات ويعيد سردها، بل كان فنانا عظيما يضاهي في عظمته أكبر الفنانين في القرن الحالي بل يسابقهم أيضاً.
الحكواتي رجل وقور ذو هيبة جليلة وسمت واضح يجلس فوق سدة خشبية عالية مجللة بالسجاد وحولها أصص نباتية بديعة كانت موجودة في مقاهي دمشق القديمة، وهو رجل مهيب يحمل بيده عصا ( خيزرانة) ويشيع بين المستمعين جواً من الرهافة والحس العالي يجعلهم أقرب للتلقُّن والاقتناع، ويقوم من خلال روايته للقصة بعملية الإيحاء الكبير… تلك العملية التي يعجز عنها الكثير من الخطباء والفصحاء والبلغاء في زماننا هذا.
ويمكن أن تتجلى سمات الحكواتي في الخصائص التالية:
1-ـ يأتي إلى المقهى في وقت محدد لإلقاء الحكايات، ولا يمكن أبداً أن يتأخر عن الموعد المحدد ويجعل الناس تنتظره.
2- كان قبل أن يبدأ برواية القصة يقدم ما يسمى بـ«دهليز الحكاية» وهو عبارة عن مقدمة يسردها ريثما يصل الجمهور المتأخر، وفيها يتحدث عن أمور مضحكة، ويقدم بعض النصائح الطريفة… وبذلك يكون قد حقق شرطاً أساسياً للمتلقي وهو شرط (التمهيد وتهيئة النفوس) فلا يلقي الكلام مباشراً.
3- بعد ذلك كان يروي موجزاً عما قدمه في الليلة الماضية، تماماً كما في المسلسلات التلفزيونية، وبذلك يحقق عنصراً أساسياً لمن فاته الحضور أمس… وهذه ميزة أساسية قلما يتم التركيز عليها.
4- كان بارعاً جداً في الإلقاء المثير وقد كان يتخذ لنفسه وسائل لتحميس الجمهور، حتى إن بعض الحكواتية كان يغادر السدّة وينزل إلى الجمهور وقد أمسك سيفاً أو خيزرانة يلوِّح بها ويضرب على الطاولات وكأنه هو نفسه بطل الحكاية أو السيرة ما يثير الحماس في النفوس… والناس ينظرون إليه مدهوشين وكأنهم خضعوا إلى عملية تنويم مغناطيسي.
5- كان أحياناً يستخدم أكثر من لغة في رواية القصة، فقد كان بعض الحكواتية يتقن اللغة الفرنسية والتركية ليستخدمهما حين يلاحظ وجود من يستمع إليه من غير العرب وذلك على الرغم من أنه قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب… وهذه لعمري ميزة قلَّ نظيرها في عالم الأدباء.
6- كان للحكواتي ميزة ممتعة وهي قدرته الفائقة على تلوين صوته بحسب ما يقول ؛ فتراه يغيِّر نبرة صوته بما يتماشى مع وقائع الأحداث في قصته؛ ما يضفي على القصة بعداً واقعياً ملموساً، ويجعل مسمعها أشد تأثيراً على الجمهور… يدل على ذلك أن الناس أحياناً تنساق مع روايته وترتفع لديهم وتيرة الانفعال بشكل كبير حتى ينقسمون أحياناً إلى فريقين… وقد يؤدي بهم هذا الاندفاع إلى التشاجر في نهاية القصة إذا كانت الخاتمة لا تروق للجميع.
7- وفي النهاية كان الحكواتي يتعمد أن يتوقف عن الكلام في جزءٍ من القصة مشوق جداً… جزء تحترق النفوس لهفةً لمتابعة ماذا سيحدث بعده… وهذا يدل على مهارته الكبيرة… فهو يتعب في الخاتمة كما يتعب في صنع المقدمة… ولعل هدفه من ذلك أن يبكِّر الناس للاستماع إلى تمام القصة بشوقٍ في اليوم التالي.
من هنا فقد كان الحكواتي فناناً عريقاً… تشعر وأنت تستمع إليه وكأنك جالس في مسرح مضاء ومجهز بأحدث التقنيات الفنية الحديثة.
وآخر حكواتي كان في مدينة دمشق كان المرحوم عبد الحميد الهواري ـ حكواتي دمشق الأول- والملقب أبو أحمد المنعش، وكان يقدم حكاياه في مقهى النوفرة بالقرب من الجامع الأموي في دمشق.
كان الحكواتي مؤلفاً بديعاً وممثلاً بارعاً ومخرجاً متميزاً ومهندساً للديكور ومديراً للإنتاج في وقت واحد.
ولقد كان المستمع إليه آنذاك مشدوداً متمتعاً أكثر من متعته اليوم بما تعرضه بعض الفضائيات من برامج ومسلسلات لا تصلح لأن تكون واقعاً أو خيالاً.
الحكواتي كان طقساً من طقوس رمضان المميزة.
حقاً؛ لقد جاءت الحضارة بأساليبها المعاصرة فسلبت من رمضان بعضاً من رونقه القديم… رحم اللـه أيام البساطة والهوى.

Exit mobile version