Site icon صحيفة الوطن

«نصيب».. بالأبيض والأحمر والأسود

| علي محمود هاشم

انتكاسة جديدة للحرب الغربية على الجغرافيا السورية، تقهقراً من ذروتها التي وصلتها في نيسان 2015 إبان دفع مرتزقة جبهة النصرة إلى معبر نصيب الحدودي، كآخر المتنفسات البرية للاقتصاد السوري مع الجوار.
خلا معبر وحيد مع لبنان، لم يعد لسورية بعد ذلك التاريخ أي وجود على الخريطة التجارية شرق المتوسط، لا بل أضحت، ومعها العراق بدرجة أقل، مهددتين في مبررهما الجغرافي كدول ضمن الإقليم، وبغض النظر عن تمدد الخنجر الأردني الذي غُرس في الظهر السوري آنذاك نحو قلب أسواق المملكة، فقد أصاب بنصله الحاد الاقتصاد الوطني دافعاً أمامه تدهوراً كبيراً لليرة السورية أمام العملات الأجنبية ملامساً 600 ليرة للدولار مطلع العام التالي.
في الشكل، يمكن استلماح الغدر الذي واجهه عناصر المعبر بافتراضهم أن ظهورهم تستند إلى حراس حدود «شقيقة»، من خلال لقطات الخيانة الأممية الفاضحة التي جسدها تآمر الكتيبة النمساوية مع تكفيريي «النصرة» في 2012 لقتل إحدى وحداتنا الأمنية -غيلة- عند المنطقة العازلة مع العدو الصهيوني في الجولان المحتل.
أما في المضمون، فلم تكلف «الشقيقة» الأردنية نفسها عناء التفكر بالمنعكسات التلقائية المؤكدة لتنفيذ أوامر بريطانيا «الرؤوم» في إغلاق المعبر، منقادة وراء الشهوة المريضة لتحالف الأعداء «والأشقاء» معاً آنذاك لاصطناع جسر برّي يفصم العرا البرية للعراق وسورية، في سياق مشروع اقتصادي إقليمي يعيد هندسة طرق التجارة والطاقة بما ينسجم وتطلعات غرب أوروبا لتكريس تصوراته الحالمة عن ذاته الاستعمارية، في مواجهة مباشرة مع التنمية الشاملة التي كان لفضاء مبادرة «البحار الخمسة» الوليدة آنذاك، أن يدفقها نحو شعوب المنطقة وجوارها.
الآمال الاستعمارية الآثمة تلك، ولدت من رحم رغائبية مريضة بأن يشكل ذلك الجسر بديلاً مجانياً «تنافسياً» يربط اقتصاد الغرب شمالاً بأسواق وحقول نفط عملائه جنوباً، دول التوابع من جهتها، كانت مأخوذة بمقولة مفادها: حتى الكائنات الرمّامة يمكن لها أيضاً أن تحظى بحصتها من الفريسة في وقت ما!
لم يطل الوقت حتى وطئ رجال الجيش السوري وحلفائه بأقدامهم ذلك الذهان، لتتشظى مذّاك، وحتى اليوم، الآمال الاستعمارية المندفعة على حواف البحار الخمسة، مناجية وقف اللعنة المتدحرجة من الجرح السوري بعدما هددت، بالدهس، القواعد التاريخية للمصالح الاقتصادية السائدة في المنطقة.
معبر نصيب المحرر اليوم، أدخل تبدلات جوهرية على جبهات هذا الصراع، فهو البوابة الرئيسة لثلاثة من البحار الخمسة: الأبيض، الأحمر، والأسود، كان على الأردن، تحديداً، أن يتيقن مبكراً من أن إقامة الجدران التكفيرية العازلة سداً أمام هذه التلاوين البحرية التي لا تتطابق أطيافها عبثاً مع البناء اللوني للعلم الوطني السوري، وكان له أن يتذكر بأن العزل السوري سينقلب وبالاً على الجميع.. وأوله الأردن، وأن الأحلام المحشورة قسراً شرق المتوسط، لن تحقق ما لم تتخذ من ناموس التكافل الذي يدين به فضاء البحار الخمسة، أرضية لها، فتبعاً لأسباب موضوعية، كان ليجدر بمعتنقي الأحلام البريطانية التريث إلى ما بعد انقلاب الخريطة الممتدة من المتوسط إلى أفغانستان شرقاً، فدون ذلك، سيكون الجميع خاسراً، في أحسن الأحوال.
عاد معبر نصيب اليوم، ولئن كانت الحكمة تقتضي عدم ركون المرء إلى الدور الأردني المتبدل إزاء حثالات بريطانية في الجنوب السوري، فثمة ما قد يطمئن نسبياً ويتمثل، للأسف، بانقطاع السبل الاقتصادية والاجتماعية بالمملكة الجارة، إلى حدود التخلي عن «نصيب» كمعبر للعناوين المذهبية والأهلة الكاذبة، وأن تطهيره من بعض المرتزقة، بات يمهد للانتقال من قواعد الاشتباك المغزولة بخيوط إسرائيلية يستهدف اقتصاد المنطقة، إلى قواعد التلاقي في فضاء البحار الخمسة التي لا مكان للأخيرة فيه.
يعود معبر نصيب اليوم كثاني المعابر المحررة التي يتوزع على امتداداتها الفضاء التنموي للبحار الخمسة، وفيما لو نجح الأشقاء العراقيون في دحض الوحي الأميركي بافتتاح معبر البوكمال «الأول»، فثمة فرصة لوضع «قِدر» التنمية في بلدان شرق المتوسط العربي على أركانه البحرية الثلاثة: الأبيض، الخليج العربي، والأحمر.
ورغم ضبابية دور ومصير الهلال «الكردي الأميركي/ التركماني التركي» الذي يطوق عنق فضاء البحار الخمسة شمالاً، فثمة حلول بديلة لتفادي هذا السد بمداميكه المتناحرة القابلة للتفجر في أي وقت، منها المضي بقوة إلى الربط البحري مع القرم وبتوءمة الموانئ السورية والروسية على البحرين المتوسط والأسود، وكذا إطلاق التواصل مع قزوين عبر البرين العراقي فالإيراني، تلاقياً مع ممرات السكك الحديدية لطريق الحرير.
نظرياً، عاد الأردن إلى موقعه الطبيعي المصلحي ضمن فضاء البحار الخمسة.. بقي العراق!.

Exit mobile version