Site icon صحيفة الوطن

قصاصات أحمد وليد منصور غير القابلة للطعن … ساطع الحصري من طوراني يدعو إليها إلى رائد للقومية العربية وفي لغته رطانة!!

| إسماعيل مروة

ليس كتاباً عادياً كما تعودنا من الأساتذة المحامين، فعندما يصدر كتاب عن أحد الأساتذة فإنه غالباً ما يكون من وقائع المرافعات أو المشاهدات في قاعات المحاكم، أو يكون من ذكريات الأستاذ المحامي في أثناء ممارسته لمهنته، أو يكون في مواضع عديدة من الأروقة والقضايا التي يمكن أن تفيد شريحة مهمة من الناس.. وفي بعض الأحيان يكون المحامي من الشخصيات المهمة الاعتبارية في الحياة العامة كما هو حال الأستاذ الراحل الأديب نجاة قصاب حسن، فتنحو مؤلفاته تجاه الحياة والثقافة والأدب والفن.. وقد نشر عدد من المحامين يومياتهم وتجاربهم كما هو حال الأستاذ نجاة قصاب حسن والأستاذ الراحل هائل اليوسفي، وحين اطلعت على كتاب (قصاصات غير قابلة للطعن) للأستاذ المحامي أحمد وليد منصور وجدتني مدفوعاً لقراءته من إيماني بأنني سأقرأ كتباً مختلفاً في موضوعه وطروحاته.

البحث والتوثيق

لا يحتاج الكتاب وأنت تطالعه إلى أي نوع من الاستعراض، فالعنوان دال وحده على ما فيه (قصاصات غير قابلة للطعن) والطعن هنا يحمل دلالتين أولاهما زمنية، فقد مضت هذه القصاصات، ولم يعد من إمكانية لأي نوع من الطعن فيها، وثانيتهما اصطلاحية حقوقية، فهي أوراق لا يمكن للطعن أن يغيّر ما فيها من أحكام قضائية.. أما العنوان الفرعي، فهو الذي أعطى الكتاب البعد التوثيقي التاريخي (بين القضاة والسياسيين السوريين 1918-1961) فالكتاب فيه إيثار، ومن خلاله أراد المؤلف الحقوقي، ومن خلال اطّلاعه ومعرفته العلمية أن يوثق لمرحلة زمنية تقارب نصف قرن من الزمن للقضاء السوري، وآليات تعاطيه مع السياسيين وتدخلاتهم وقضاياهم.. وفي الكتاب طرفان اثنان: القضاة والسياسيون. وفي هذا الكتاب يستعرض الأستاذ المحامي وقائع قد لا يصدقها المرء، لشخصيات قضائية كانت لائقة بالقضاء واسمه ومهمته ومهنته، وفي هذا الميدان لا بد من الإشارة إلى أن كثيراً من هذه القصاصات منثور في الدوريات والكتب، ولكن الباحث وضع على عاتقه مهمة البحث والتنقير والتمحيص لجمع ما يستحق، وما يعطي دلالة قاطعة على مكانة القضاء السوري واستقلاليته، وربما تابع الباحث نفسه أو غيره مثل هذه القصاصات من عام 1961 وإلى يومنا، ليكشف جوهر قضائنا الذي يحتفظ بالصور المضيئة والمشرقة التي تؤكد بلا أدنى شك أن القضاء فيه من النزاهة والمواقف النبيلة ما يستحق الوقوف عنده.. ولا بد من الاعتراف أولاً بأنني، وعلى الرغم من إدماني القرائي، فهناك قصاصات كثيرة لم أطّلع عليها قبل هذا الكتاب.. وذلك يعود إلى تقصيري، وإلى خبرة الأستاذ المحامي الذي يجيد الالتقاط وجمع القصاصات، ولكن تلك القصاصات التي تمثل تاريخاً وتوثيقاً، ولا تكتفي بالاستعراض المعرفي، ولأنه يدرك أن هذه الأخبار لا تتجاوز القصاصات، فقد أطلق الاسم عليها من دون البحث عن مسمى أكثر فخامة، وفي الوقت نفسه أعطاها صفتها التي تستحقها، فهي غير قابلة للنقض، لأنها كانت مبرمة، وصارت في ثنايا التاريخ.

صفة الكتاب

د. سامي المبيض من الذين أخلصوا للتاريخ السوري الحديث والمعاصر، وقد أنجز عدداً من المؤلفات والمصنفات التي تجمع بين الوثيقة والتحليل والدراسة والاستخلاص، وقد استطاع المبيض أن يدوّن اسمه مؤلفاً وباحثاً وموثقاً، وقبل كل شيء كان مفتوناً بالتاريخ السوري والدمشقي، ومنصفاً غير متعاطف بشكل مرضي مع بلده ومدينته، لذلك قد نجد في أحايين كثيرة نقداً قاسياً لأشخاص أحبهم، أو لطريقة حياة أو سياسة، أو لمدينة، وقد أراد المؤلف أن يضع هذا الكتاب بين يدي د. المبيض، وفي هذه الخطوة تطويب لمنهج أراده المؤلف وارتضاه، ومما جاء في تقديم المبيض «حكموا بالعدل وتسلحوا بالحق» فقد أعطوا سورية الكثير الكثير، ولم يأخذوا بالمقابل سوى شرف الانتماء إلى هذا البلد، أسماء كبيرة مثل القاضي محمد آقبيق والشيخ علي الطنطاوي، لولاهم لما كانت النهضة ولما كان الجلاء..
تكمن قوة هذا الكتاب في أن صاحبه ليس مؤرخاً، وهو لا يدعي ذلك بالمطلق، هو رجل قانون محترف، قارئ جيد لتاريخ بلاده، وموثق لكل ما يتعلق بمهمته.. كيف يستطيع كل من عرف الشام وأدمنها ألا يعشق هذا الفعل، وخاصة وهو يعيش داخل دمشق ويشاهدها تشيخ أمام عينيه، وتتلاشى ببطء نتيجة الفوضى والفساد وسنوات الحرب على سورية.. أحمد منصور استمرار لذلك الجيل من الحقوقيين الأصيلين.
أما المؤلف والموثق أحمد منصور فيتحدث عن الهواية والشرارة، فهو يجمع هذه القصاصات منذ زمن، لكن شرارة جمعها تنطلق من مهنته واحترامها، وفي ذلك يقول «القاضية الأميركية- آن دونللي- لم يرقها إجحاف ترامب بشأن المهاجرين، فأعطت حكمها الجريء، بإيقاف العمل بقرار الرئيس ترامب. كنت منذ فترة طويلة، أقوم على إعداد كتاب يتضمن جزءاً من الحياة القضائية والقانونية والسياسية التي عاشتها سورية في مرحلة من مراحل تاريخها الطويل، وجاءت قصة ترامب هذه لتشعل لهيباً، كانت قد أطفأته لعنة الحرب التي طالت سورية».
والكاتب يعلم أن هذا الكتاب الذي يتناول ظواهر مستهجنة اليوم قد لا يروق، لذلك ختم تقديمه بكلمة ناقدة واعية تبين إدراكه لما يقوم به.. أقدمه لكل مهتم بالتاريخ السوري، على الصعيد القانوني والسياسي والاقتصادي، أجمعه كباقة زهور من مختلف المراجع، باقة قد تغضب زهورها ورائحتها البعض، وقد تعجب البعض الآخر، ما يهم في الأمر أنها موجودة حقيقة، وعلينا جميعاً، أن نشتمها، ونتطيب برائحتها، فهي جزء من تاريخ لا يمكننا إهماله».
هذا الوعي السياسي والقانوني يلزمنا عند تصنيف كتاب أو تدوين مقالة، لأنه يصل إلى الغاية النبيلة التي لا تستثني ما لا يروق لنا، سواء أحببنا الأمر أم لم نحب، فعندما نقوم بتدوين الوثائق علينا أن نكون منصفين، وهذا ما نقع عليه في هذه القصاصات التي تقدم صورة صادقة للقضاة والسياسيين السوريين في أكثر من نصف قرن.

شواهد باقية وبحث عن استقلالية

يختلف هذا الكتاب عن غيره من الكتب، وخاصة في ظل وجود من يحاول أن ينال من القضاء، وهنا يقدم المؤلف الموثق وثائقه لا ليدافع عن القضاء، وإنما لينقل لنا من دون تدخل منه صورة للقضاء صاحب الصوت المستقل، والحكم القاطع الذي لا يقبل طعناً أو رداً، وإنما كان قراره مبرماً دوماً، ولا يحمل أي شبهة للطعن فيه أو رده، وما يسجل لهذا الكتاب التوثيقي هو جمعه للأوراق من وجهة نظر قضائية خالصة، وليس من أي منطلق سياسي أو إيديولوجي، لأن غايته تتمثل في البنية القضائية السورية لا شيء سواها، فنجد حديثاً عن محاكمات سياسية وعسكرية ومدنية، ونجد أسماء لقضاة لهم مواقفهم السياسية والفكرية التي قد لا يتفق بعض الناس معها، إضافة إلى تدوين سيرة عدد من رجال القضاء لا يعرفهم سوى قلة من القراء بأنهم كانوا قضاة من الطراز الرفيع!

فمن المواجهة بين السلطتين السياسية والقضائية، بدأ المؤلف كتابه ليظهر للقارئ بوضوح احترام الحكم المدني في المجتمع حين تم تأسيس نظام التشكيلات الأساسية للاستناد إليه في الحكم المدني، والذي يعد أول دستور لسورية بعد استقلالها عن الدولة العثمانية.

وعلمية القضاء وحياديته جعلت القضاء يأخذ مواقف حادة وقوية تجاه شخصيات اعتبارية يقف القارئ منها موقفاً فيه الكثير من التبجيل والاحترام، ولا أخفي أن هذا الكتاب قدّم لي معلومات جديدة غاية في الجدة، أثارت استغرابي، وفي الوقت نفسه احترامي للتراتبية القضائية، وحسبنا أن نقرأ لنتعلم ونعيد للقضاء استقلاليته التامة واعتباره كما كان، ولعل أغرب ما قرأت هو الحديث عن ساطع الحصري، وكما تذكر المصادر- ولم أكن أعلم بها- كان صاحب نزعة طورانية ثم أصبح رائداً للقومية العربية، ونتيجة لعدم إجادته العربية بشكل جيد، ولقراراته التعليمية التي لم يجدها الناس في مصلحة التعليم، وبعد العرض لنقرأ الحكم «لما كانت الشكاوى من ساطع بك مدير المعارف العام قد بلغت حداً يستلزم الدقة والإمعان، ويستوقف عنده النظر، وكانت الأخبار المتسربة من مصادر موثوقة، تدل على استياء المعلمين، والمعلمات، ومديري المدارس، من المومأ إليه، أصبح عاماً بسبب جهله باللغة العربية، وعدم امتزاجه مع أولئك جميعهم، حتى اضطر قسم منهم لترك المدارس، وإهمال الوظائف، وكان حسن الإدارة والامتزاج، والمشي مع سنن الرقي والعمران، في طريق التدرج، هو من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الموظفون، فإنها تتحسن بتبديل المومأ إليه».
فهل هناك بعد هذه القصاصة من دليل على نزاهة القضاء وحكمه المبرم، وخاصة مع وجود أسماء الموافقين وأسماء المخالفين، وأنت تتعامل مع اسم له مكانته الكبرى في القومية العربية وربما أوحت لك هذه القصاصات بأشياء كثيرة.
إن هذه القصاصات تقدم قضايا تثير العجب والاحترام لأمور كان فيها شكري القوتلي طرفاً أو أديب الشيشكلي أو العسلي أو الحصري أو سواهم من الناس الاعتباريين، وتعرض لك أسماء قضاة من القضاة الذين تركوا أثراً في الحياة القضائية والسياسية من أمثال علي الطنطاوي الذي لم يحل بينه وبين الرأي القضائي حائل، وغيره من القضاة.
قصاصات تستحق الوقوف عندها، وأدعو السيد المحامي أحمد وليد منصور أن يتتبع هذه القصاصات إلى وقتنا، فلابد أنه سيقع على قضاة من نوع أولئك أو أهم، ولا بأس من إيراد تجاوزات لسياسيين على القضاء، أو من قضاة لمصلحة السياسيين.

Exit mobile version