Site icon صحيفة الوطن

اللجنة الدستورية والاستهلاك السياسي

| مازن بلال

يمكن لمصطلح «الاستهلاك السياسي» التعبير بشكل واضح عن المرحلة التي تمر بها الأزمة السورية؛ فرغم التحولات العميقة إقليمياً ودولياً فإن الجهد ينصب بشكل أساسي نحو مساحات أنتجتها بعض التوافقات الدولية، وعلى الأخص مسألة اللجنة الدستورية التي باتت بوابة للعودة نحو إحياء التفاوض، ومن دون التقليل من أهمية مسألة الدستور إلا أنه يطفو اليوم فوق خلافات كثيرة، ويشكل عنوانا يخفي عدم القدرة على رؤية الكثير من المواضيع التي تخص السوريين.
تقدم موسكو عبر مسألة الدستور نموذجاً لتفكيك بعض الخلافات الدولية حول الموضوع السوري، وهي ترى الموضوع من زاوية إنشاء «مساحة آمنة» لتوافق أصبح ممكنا أكثر من أي وقت مضى، وفي المقابل فإن هذه المسألة مختلفة كلياً للأطراف الدولية الأخرى، فواشنطن أعفت نفسها من المهام السابقة خلال جولات التفاوض، وهي تركز اليوم على مسألة واحدة متعلقة بالوجود الإيراني في سورية، وتكتفي بتأثيرها من خلال وجودها العسكري ودعمها لقوات «سورية الديمقراطية» في شرقي الفرات، على حين تتعامل باقي الدول مع الموضوع السوري من زاوية واحدة متعلقة بتغيير البنية السياسية عبر دستور يعكس التوازن الدولي فقط.
وإذا كان موضوع الدستور يملك أهمية لإعادة الدفع للعملية السياسية، فإنه في الوقت نفسه يشكل بذاته «عملية» لتجاوز واقع قائم لا يرتبط فقط بقدرة الدولة حالياً على الإمساك بمفاصل الأزمة فقط، بل أيضاً بثلاث قضايا أساسية يمكنها أن تعصف بأي محاولة سياسية للتعامل مع مسألة الدستور؛ فهناك بالدرجة الأولى مناطق التوتر سواء في إدلب أم شرقي الفرات، وهي ليست مجرد جغرافيا خارجة عن سيطرة الدولة، وإنما نقاط تأزم دولي وإقليمي تؤثر بحدة في مسار أي حل سياسي، وتملك امتداداً إقليمياً ودولياً واضحاً، فشرقي الفرات لم يعد مجرد بحث عن حلول بشأن الوضع الكردي في سورية، وهو يشكل جبهة واضحة لتركيا، وتناقضاً صارخاً بين الحلول السياسية المفترضة وإمكانية التعامل معها عبر وضع دستور جديد.
القضية الثانية تفرضها طبيعة «اللجنة الدستورية» التي تحاول جمع أجزاء من المشهد السوري العام، فالخلاف القائم على تمثيل «المجتمع المدني» هو في حده الأدنى اقتسام بين القوى على المجتمع السوري، لأن «المجتمع المدني» لا يعبر في سورية عن واقع خاص، ومن الصعب إيجاد تمثيل واضح له لأسباب متعلقة ببنية المجتمع ومؤسساته التي لم تظهر إلا بتجليات هشة، وهذا الأمر كان واضحاً منذ بداية الأزمة عندما تشكلت «المعارضة» في الخارج من خلال جهاز سياسي، لم يستطع إيجاد امتداد قوي إلا عبر التشكيلات المسلحة، فأزمة إيجاد بنية سياسية تنسحب أيضاً على المجتمع المدني الذي تم تمثيله من خلال نشطاء سياسيين بالدرجة الأولى.
القضية الأخيرة هي في صعوبة التعامل مع «دستور جديد» في ظل تناقض المراحل السياسية في سورية، فنحن لسنا أمام تراث دستوري خصب منذ الاستقلال وحتى اللحظة، بل مشاهد سياسية متفاوتة فرضت واقعاً تم عبره تغيير الدستور، ورغم ذلك فإن هذا الأمر لم يؤد إلى كسر التوافق الذي تأسست عليه سورية المعاصرة، على حين نواجه اليوم مسائل أعقد من كل ما واجهته الأجيال السابقة، فنحن أمام إرادة دولية لصياغة الشكل السوري الذي ساد منذ مطلع القرن الماضي.
ربما يشكل الدستور مدخلاً سياسياً لتفكيك الكثير من الصعوبات على المستويين الدولي والإقليمي، أما بالنسبة للداخل السوري فالمسألة أكثر عمقا لأنها تتعلق بالعلاقات التي تسود المجتمع من جهة، والبنية السياسية المعبرة عن السوريين عموما من جهة أخرى، فـ«الاستهلاك السياسي» عبر الدستور لا يمكنه رسم المشهد في الداخل لأنه في النهاية عمل أكثر تعقيداً ويستند إلى القدرة على صياغة علاقات داخلية سورية أكثر إنتاجية وفاعلية.

Exit mobile version