Site icon صحيفة الوطن

حرب غزة الأخيرة ومأزقا السعودية وإسرائيل

منذ اتخذت القوتان الاستعماريتان الأكبر في العالم بداية القرن العشرين، بريطانيا وفرنسا، قرار الإجهاز على الرجل المريض الدولة العثمانية، وتقاسم تركته بينهما، خطط العقل البريطاني الخبير في شؤون استعمار العالم، وذو الباع الطويل في العبث بالقيم الدينية وتسخيرها لمصلحة استدامة هيمنته، للقيام باستثمارين مهمين في مجال الدين، اعتبرهما الضمانة للإمساك بالمنطقة العربية: إسرائيل الصهيونية والسعودية الوهابية.
فتم بناء على ذلك حسم مسألة الوطن القومي الذي كانت الحركة الصهيونية تبحث عنه كحل لما عرف بالمسألة اليهودية في أوروبا، وبدلا من الأرجنتين أو أوغندا اتخذ القرار بإعطاء فلسطين لليهود ليقيموا فيها دولة ذات وظيفة عسكرية تشطر المنطقة العربية شطرين، وذلك على الرغم من تحريم الدين اليهودي الهجرة إلى فلسطين قبل ظهور المسيح المخلص، ولا تزال «حركة ناطوري كارتا» اليهودية تتمسك بتحريم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتعادي الكيان الصهيوني إلى يومنا هذا، وذلك بعد أن نجحت الحركة الصهيونية بصهينة الأغلبية العظمى من يهود العالم.
كما جرى وبشكل متزامن مع بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين وبناء على قرار الإدارة البريطانية للهند، الاتصال بالأمير المنفي إلى الكويت عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وتمويله وتسليحه من أجل أن يكون خنجرا بريطانياً في ظهر الدولة العثمانية، على التوازي مع حركة الشريف حسين التي كانت مدعومة من مكتب إدارة الشؤون البريطانية في القاهرة، وبينما حظيت حركة الشريف الحسين بالمستشار العسكري الذي ملأت شهرته الآفاق لاحقا، وأطلق عليه اسم لورنس العرب، فقد سبق إرسال لورنس إلى شبه الجزيرة العربية إرسال الضابط البريطاني شكسبير ليكون القائد الفعلي لقوات آل سعود الساعية لإقامة الدولة السعودية الثالثة، وتشير وثائق المكتبة البريطانية إلى أن شكسبير كان لا يقل ألمعية وأهمية عن لورنس العرب، إلا أن مقتله في مرحلة مبكرة على يد قوات آل الرشيد الموالية للعثمانيين خلال إحدى المعارك مع قوات عبد العزيز الـسعود في كانون الثاني 1915 حال دون شهرته، حيث أصيب برصاصة في مرفقه الأيمن خلال المعركة، ثم أسره جيش آل الرشيد حياً وظل في الأسر فترة قبل أن يُعدَم برصاصتين، الأولى في رأسه والثانية في ظهره، وقُطع رأسه، وأرسلت خوذته العسكرية إلى الحامية العثمانية في المدينة المنورة، حيث قامت السلطات العثمانية بتعليقها على أسوار المدينة في رسالة لابن سعود تفيد بأن علاقته مع البريطانيين أصبحت معروفة لشعوب الحجاز.
لقي شكسبير مصرعه فجرى إرسال، جون فليبي، عوضاً عنه لقيادة القوات السعودية، لكن بقيت توصية شكسبير الخاصة بضرورة أن تعتمد بريطانيا العظمى على آل سعود المتسلحين بالعقيدة الوهابية حية في العقل الاستخباراتي البريطاني، والوهابية عقيدة فرقة شاذة من المسلمين صنفت عموم المسلمين مشركين وأحلت دماءهم وأموالهم وأعراضهم خلال القرن الثامن عشر، وتسببت في فتنة امتدت من نجد إلى الحجاز وأطراف العراق والشام، قبل أن يقضي عليها الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا.
أثبتت نظرية شكسبير جدواها في النهاية بعد وفاته، فقد حمت قوات آل سعود ظهر القوات البريطانية التي بدأت بغزو محافظة البصرة المحاذية لنجد عام 1914، كما أثبتت قوات آل سعود شراسة قتالية عالية ونجاحاً عسكرياً مبهراً في معارك السيطرة على شبه الجزيرة العربية، على الرغم من أنها كانت تحظى بنصيب من التمويل والتسليح البريطانيين أقل مما تحظى به قوات الشريف حسين الهاشمية والمدعومة من مكتب الاستخبارات البريطانية في القاهرة، فانتهى الأمر بالبريطانيين للقبول بسيطرة عبد العزيز آل سعود على منابع النفط وعلى الأماكن المقدسة للمسلمين في الحجاز بدلاً من الشريف حسين.
وهكذا ظهر إلى الوجود ما عرف بالمملكة العربية السعودية التي أدت خلال العقود اللاحقة دور القوة الناعمة بيد بريطانيا العظمى ومن ثم بيد وريثتها الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بفضل مكانتها الدينية المستمدة من سيطرتها على مكة والمدنية، أيضاً بفضل قدرتها المالية المستندة إلى الثروة النفطية، هذا في مقابل القوة الصلبة التي تمثلها إسرائيل، التي أوكل لها وظيفة عسكرية بحتة كعصا غليظة في مواجهة مشاريع التحرر التي تتحدى الهيمنة الاستعمارية الغربية في منطقتنا، على حين أوكل للسعودية مهمة شراء النخب السياسية والمثقفة واختراق النخب الحاكمة في النظم التقدمية، ومهمة اختلاق إسلام مزيف مناسب لاستخدامه في معارك الغرب ضد خصومه.
لذا لم تكن مصادفة أن تتشاطر السعودية وإسرائيل طوال تاريخهما قائمة الأعداء المشتركة نفسها من جمال عبد الناصر إلى السيد حسن نصر الله، كما كان طبيعيا أيضاً تشاركهما سنوات التهديد وانحسار الدور الصعبة عليهما طوال الخمسينيات والستينيات مع صعود حركة القومية العربية بقيادة عبد الناصر، ثم انتعاش دورهما المتزامن مع حرب 1967 التي هزمت فيها إسرائيل الدولتين التقدميتين سورية ومصر، ووصلت ذروة صعودها العسكري، فارتاحت السعودية على مصيرها بعد قلق، ثم بدأت صعودها الإقليمي، حيث لم يكن ممكنا للمملكة أن تمارس ما مارسته من نفوذ على السياسة والثقافة وإفساد لهما في العالم العربي بدءاً من عقد السبعينات لولا انحسار المد القومي عقب هزيمة 1967.
من دون السرد التاريخي السابق لا يمكن تفسير حالة التخبط والقلق الإستراتيجي التي تعيشها السعودية اليوم، والتي دفعتها للتخلي عن دورها التاريخي كقوة ناعمة تؤدي وظيفتها في خدمة المصالح الأميركية من خلف ستار الاعتدال والدعوة للتسويات، ومن دون انخراط مباشر في الحروب والصراعات، فالقلق الوجودي السعودي مرتبط أساساً بالتضعضع الذي أصاب الدور العسكري الإسرائيلي في المنطقة، الذي بدأ مع الهزيمة الأولى المكتملة التي لحقت بالصهاينة على يد حزب اللـه عام 2000، التي ترسخت في حرب تموز عام 2006، ومن ثم الفشل الإسرائيلي المزمن في مواجهة حرب الشعب في قطاع غزة الصغير والمحاصر من الغريب والقريب، حيث أخفقت القوات العسكرية الإسرائيلية في اقتحام حي الشجاعية فيه خلال حربي 2008 و2014، كما فشلت طوال عشر سنوات في تدمير صواريخ فصائل المقاومة في غزة التي وصلت مطار بن غوريون قرب تل أبيب، من دون أن تنفع باكتشافها الرقابة الجوية الإسرائيلية بالطائرات والمناطيد المستمرة 24 ساعة في اليوم في سماء القطاع.
أما المواجهة الأخيرة بين فصائل المقاومة الغزاوية وإسرائيل التي انتهت بعد 48 ساعة فقط من اندلاعها بأزمة داخلية تكاد تطيح بالائتلاف الوزاري الحاكم في إسرائيل، فهي الدليل الحاسم على نهاية الوظيفة العسكرية للكيان الصهيوني في منطقتنا، هذا الكيان الذي أقيم كقاعدة عسكرية للغرب لكنه فقد قدرته على تقديم الضحايا في الحروب، وهي شرط لازم لمن يريد أن يخوض حرباً، فلم يعد أحد في إسرائيل بعد بروفة غزة الأخيرة يصدق ادعاءات رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو عن دور إسرائيلي في توجيه ضربة لإيران، أو عن قدرة على تدمير صواريخ «إس300» السورية على حين سلاح الجو الإسرائيلي عاجز منذ عام 2008 عن تدمير صواريخ غزة.
بناء عليه ينبغي أن نتوقع بعد حرب غزة مزيداً من الانزلاق السعودي في مغامرات من نمط حرب اليمن المجنونة وجريمة جمال خاشقجي الوحشية، وستسقط ما تبقى من هيبة للحكم السعودي في عين مواطنيه من سكان شبه الجزيرة العربية، وستمهد لواقع جديد في شبه الجزيرة وفي المنطقة العربية عموماً تثمر فيه دماء وعذابات العراقيين والسوريين والفلسطينيين واليمنيين، تحرراً للمنطقة بأسرها من هيمنة الناهب الدولي ووكلائه الإقليميين.

Exit mobile version