Site icon صحيفة الوطن

عاش بها ساجداً

تائه ما بين سماء وأرض
ضائع لا أعرف وجهتي وطريقي
شاهد على تبخر أحلامي
بخار الأيام يتصاعد من قلب نور تجاوز الظلام، وقفز فوق الرماد، وتعتق بالدم النبيل، وتماهى مع تربة الوطن..
تائه يسأل ذاته التي ظنها ذاته لعمر متطاول فلا يجد جواباً، وكأن حشرة تتماهى في مستنقع قذر..
وقبل أن تشرع أعمدة البخار بالتصاعد لاذ بالأنا، الأنا التي دفعته إلى التبخر.. فكانت.. ليس يذكر ما كانت، كل ما يذكره أنه لا يذكر، وبلحظة من زمن متطاول حتى امرئ القيس، ومختصر إلى أن يصبح قطرة، كان الستار الأسود الذي ألقى الذات المتعجرفة، ومحا الأنا المتطاولة في الأنانية
وعاد صديقي وحيداً وحيداً
لا أنيس معه سوى وحدته، وبعض من صور مرشوشة بلون وقلم
عاد إلى ذاته، وفي ظنه أنه كان خاسراً
ولم يدر أن الحجاب الأسود الذي يشبه قماشة آلة التصوير التي التقطت بها صورته المدرسية الأولى بيد المصور الأرمني (الأرمل) المتجول.. لم يدر أن هذه الستارة السوداء عالم من شجن وجمال وروعة متناهية الروعة، وهي أكثر طهراً وبياضاً ونقاء من أنا لا ترحمه، وتراه آلة مربوطة بطرف حذاء متعفن، ومرتبط بنفس شوهاء لا يعنيها إلا ذاتها المترهلة والمتهدلة، والخارجة من جحر لا يعرف الحب.
لحظتان متعاقبتان كانتا
عرف فيهما الأنا والذات
لكنه لم يجدهما وراء الستارة السوداء.. حتى اللامبالاة والفحيح المزعج لم يستطع أن يتجاوز إلى ما بعد القماشة السوداء.. وجلس الصبي البسيط أمام المصور الأرمني قبل خمسين عاماً على حجر، وعيناه تبرقان بجحوظ طفولي محبب، لأنه بعد هذه اللقطة سيدخل المدرسة، ويقرأ، ويعرف ويتعرف، سيحمل كتاباً، ويعرف رفاقاً، ويحترم أستاذاً، ويفتح نوافذ كان يريدها..
جلس الوليد أمام الستارة، وعند التظهير كانت صورة مختلفة، وقبع الرجل خلف الستارة السوداء لم تنجده الأنا، ولم تخاطبه الذات، انتظر طويلاً أن يخاطبه المصور الأرمني ليعطيه الصورة، لكن صوتاً لم يصل إلى سمعه، فتأكد أن ذلك البريء الجميل القادم من قلب الموت الذي أحاط به عاد إلى الموت بعد أن تبدد كل وهم من تعلق بأهداب الأنا تلاشى
وبقي المطلق
بقيت دمعة عالقة ما بين سماء وأرض
بقيت آهة مجرحة ألمك ألمه
ودفقة قلب لا يمكن أن تكون إلا في لحظات سواد
وحدها من أدركت غورها وبعدها وعمقها..
وتمضي أيام
ويدلف الأسبوع بعد أخيه
ويكتشف الطفل أن عينه الجاحظة لا تزال عالقة بالمصور الأرمني، وأن المصور لم يرحل، ويكتشف أنه اليوم يتعلم أولى الخطوات ليركض إلى سور مدرسة اشتاق لاحتضانه..
اكتشف أنه ما من افتداء، وما من نجوم ترقب سهده.. ضاع السمو، ولم يعد مزهر الحياة بعد أن احتجب عنه وابتعد، ولم يعد يعنيه طنين هاتف أو رنين، وبعد أن أراح ذاته من حمل كان لا يحبه على ما يبدو، وها هو يغادره على رصيف ظنه الضياع، فكان الكشف والاكتشاف
يا ذرة التراب النقية
يا ريق الأم التي تمسح عين وليدها
يا غمرة الحنان المشتهاة كم اشتاق الوليد إليك
إليك أيتها الأمومة أوجه وجهي، لتغمري ابنك لعل النور يبزغ من جديد..
ضاع من لا يرحم
ويضيع من يظن الوطن حليباً ووعاء
ضاع في الضياع كل من يقيس الوطن على مقاسه، وضاع كل من يرى الحياة من منخريه، ويبقى ذلك وحده الذي يحيا المطلق..
بالأمس كان
واليوم صار، وما بينهما برزخ من عمر وسواد، من كشف وبياض..
وتبدأ رحلة جديدة كل ما فيها طهر
تتجمع الثعابين على ذاتها لترحل
ترحل بهدوء وهدوء بانتظار يوم
لكنها لن تعود، وستبقى كوّة النور
غداً يبدأ يوم جديد
قد يتأخر فجره لكنه سيكون
سيأتي المصور الأرمني
سيزيح الستارة عن الصبي القابع
وستكون صورة جديدة لم تكن من قبل
لم يلتقطها أحد
لم يرها أحد
فيها وطن ممدد في العينين يحمي ما تبقى من وله
ويقدس كل درجة من عمق دمشق إلى مقام الشيخ
الأكبر محي الدين ابن عربي
وفي قاسيون تمزق الستائر
وينوي العابد ركعتين
يسجد ولا يرفع رأسه
فقد خلد بها وبنورها

Exit mobile version