Site icon صحيفة الوطن

ضلع «البديل البوليفاري» الرابع

يصعب فصل ما تشهده فنزويلا اليوم عن مشهدين أساسيين هما على درجة عالية من الترابط، الأول ذاك الذي كرسته القمة الثامنة لدول القارة اللاتينية المنعقدة في ليما عاصمة البيرو ربيع العام المنصرم، فقد احتوى الشعار الذي انضوت تحت رايته هذي الأخيرة وكذا بيانها الختامي على دلالات مهمة، وللمرة الأولى كان هذا الأخير قد خلا من الإشارة إلى «السلوك الاستعماري والاستعلائي للشمال» الذي كان يقصد به الولايات المتحدة الأميركية، ناهيك عن أن القمة كانت قد انعقدت تحت شعار «الحكم الديمقراطي الرشيد ضد الفساد» وإذا ما كانت محاربة هذا الأخير مهمة وهي تعادل التصدي للهيمنة الخارجية، فإن شق الشعار الأول كان يمثل «وصفة» يراد صرفها فقط في الصيدلية الأميركية كوكيل حصري لتوزيعها، وعليه فإن الحدث برمته كان يشير إلى انزياحات كبرى تشهدها القارة اللاتينية التي تقع في صلب اهتمام الأميركيين حتى بالنسبة لأشد المنادين بوجوب انكفاء السياسات الأميركية إلى الداخل لترميم ثغراته.
والمشهد الثاني، فهو يشير إلى أن العقوبات الأميركية على فنزويلا، وأخطرها تلك التي تخص قطاع النفط، قد بدأت تعطي أكلها جيدا، فالبلد الذي وصل بمعدلات إنتاجه سابقاً إلى 12 مليون برميل يوميا كانت صادراته إلى الولايات المتحدة قد انحدرت في أوائل شهر شباط الجاري إلى 120 ألف برميل يومياً مع الإشارة إلى أن الأخيرة تعتبر الشريك التجاري الأول لفنزويلا بواقع يمثل 80 بالمئة من تجارتها العالمية، وهو انحدار درامتيكي بعد أن كان قد بلغ 780 ألف برميل في الربع الأخير من العام المنصرم، وهذي الانزلاقة الحادة تشير إلى أن واشنطن ترى أن حصادها الفنزويلي قد أزف أوانه في قراءتها للمشهدين الداخلي والمحيط.
مشكلة العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا، وكذلك على إيران وروسيا، هي أنها ذات أثر تراكمي، وهي تفعل فعلها على المديين المتوسط والبعيد تبعا لظروف كل بلد، وبالنتيجة فإنها ستؤدي إلى تنشيط عمليات التهريب ونمو لطبقات مرتزقة ضعيفة الارتباط بالبلاد وجل همومها تهريب ما تجنيه إلى الخارج، الأمر الذي سيترافق حتما بانهيارات تشهدها الطبقات الوسطى والمهنية منها تحديداً التي ستعمد إلى النزوح، ناهيك عن معدلات التضخم الأسطورية التي تحدثها وهي بلغت كذلك مؤخراً في فنزويلا فقد ذكرت «الإيكونومست» البريطانية أن معدل التضخم في هذي الأخيرة بلغ في شباط الجاري 1698488 بالمئة، وهو رقم لا سابقة له إلا في الانهيار الذي بلغه المارك الألماني عشية دخول القوات السوفييتية إلى برلين في أيار من العام 1945 عندما وصل الدولار الأميركي إلى 4 مليارات مارك آنذاك.
اليوم وبعد أشهر على احتدام الأزمة الفنزويلية تبدو أنها مقبله على سيناريو هو أشبه بـ«السورنة» بفعل حالة استقطاب إقليمي ودولي حاد، والعديد من خطوطها بدأت بالتكشف تباعاً، ولم تكن مصادفه تلك الصورة التي نشرها السيناتور الجمهوري ماركو روبيو على موقعه على توتير وهي تصور الرئيس الليبي السابق معمر القذافي وهو مضرج بدمائه في تهديد صارخ للزعيم الفنزويلي، فالرابط ما بين الاثنين يبدو كبيراً، والتسريبات التي خرجت من بريد وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون أشارت في واحدة منها إلى أن قيادة فرنسا لعملية الناتو في ليبيا آذار من العام 2011 كان هدفها سحق مشروع القذافي الهادف إلى طرح العملة الإفريقية المدعومة بالذهب لما له من آثار على الفرنك الفرنسي في القارة الإفريقية، وكذا نظام مادورو الوريث الشرعي لنظام هوغو تشافيز الذي أقام بالتعاون مع كوبا في العام 2004 البديل البوليفاري الذي أطلق عليه اختصاراً «البا» وخصوصاً بعدما نجح لاحقا في ضم 13 دولة إليه وهو يقوم على التكامل بين دول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي في مواجهة الهيمنة الاقتصادية الأميركية، الأمر الذي عملت واشنطن على دحره منذ نشوئه وما جرى هو أنه تم احتواء كوبا منذ الاختراق الحاصل عبر زيارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لهافانا في آذار 2016، أما نيكارغوا فقد جرى تطويع نظامها السانديني نفسه على مراحل عبر اللعب على التوازنات الداخلية، في حين تم ترويض بوليفيا عبر التحولات الحاصلة مؤخراً في البرازيل عبر وصول الرئيس جايير بولسانارو إلى الحكم فيها في تشرين أول الماضي، ليبقى ضلع المربع الفنزويلي الرابع وهو المطلوب كسره الآن.
الوضع السياسي الفنزويلي الآن يبدو شديد التعقيد واحتمالات العسكرة باتت راجحة في أعقاب القرار باتخاذ كولومبيا منصة لذلك الفعل كما يبدو، إلا أن ذلك ليس هو مربط الفرس الذي سيتقرر مكانه في المشادة الحاصلة بين السيطرة على عوائد النفط التي تسعى واشنطن إلى حرمان مادورو منها وبين ذهاب الحكومة الفنزويلية إلى إعادة السيطرة عليها عبر فتح حساب جديد لها في مصرف «غاز برومينبك» الروسي.
لكن على الرغم من ذلك فإن بين يدي مادورو العديد من أوراق القوة وكلمة السر الأخيرة ستكون في بكين التي لا تبدو أنها ذاهبة نحو تخفيض علاقتها مع كراكاس التي عقدت معها أول اتفاق إستراتيجي في العام 2001، ثم أن «آلية مونتيفيديو» التي أقرت في السابع من الجاري كانت مخففة اللهجة ناهيك عن وجود افتراق إقليمي حولها مما يمثله امتناع المكسيك وبوليفيا عن توقيعها، وثالثا هناك التمزق الأوروبي الذي يبدو عاجزا عن اتخاذ موقف موحد تجاه الأزمة الفنزويلية، فيما يمكن للازمة الإيطالية الفرنسية الأخيرة على خلفية دعم حركة النجوم الخمس الإيطالية لحركة السترات الصفراء الاحتجاجية الفرنسية، أن تشكل إسفيناً أيضاً يدق في الموقف الأطلسي مما يضعف من قدرات واشنطن على التحرك، ولذا فإن التطورات ستكون مرهونة بقدرة كراكاس على إدارة هذه المعطيات فيما الخشية من أن يصبح النظام في مرحلة تزداد الضغوط عليه فيها شديد الحساسية تجاه أي حدث يمكن ألا يكون أساسيا في إدارة الصراع.

Exit mobile version