Site icon صحيفة الوطن

بيدرسن والواقع

طروحات غير مقبولة من الدولة السورية، تبدو تلك التي حملها المبعوث الأممي الجديد إلى سورية غير بيدرسون، في زيارته الثانية إلى دمشق منذ توليه مهامه، حتى جاءه الرد بلهجة تشديد من نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم، بأن العملية السياسية يجب أن تتم بقيادة وملكية سورية فقط، وأن الشعب السوري هو صاحب الحق الحصري في تقرير مستقبل بلاده، وأن الدستور وكل ما يتصل به هو شأن سيادي بحت يقرره السوريون أنفسهم دون أي تدخل خارجي.
إن توقيت زيارة بيدرسون ورد دمشق يدفعان المراقب إلى التمحص في عدد من الأسئلة المشروعة للطرح، وأولها ماذا حمل معه إلى دمشق؟ وهنا لا بد بداية من التذكير بأن المبعوث الأممي قد حط في دمشق بعد انتهاء أعمال مؤتمر «بروكسيل 3» للدول المانحة الذي عقد الأسبوع الفائت في العاصمة البلجيكية، وهناك برزت طروحات من الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية فيدريكا موغيريني، وبعده برزت طروحات مشابهة لـ«الائتلاف» المعارض خلال لقاء عقده متزعمه عبدالرحمن مصطفى، مع مبعوث البيت الأبيض إلى سورية، جيمس جيفري، إذ تم ترديد الحديث ذاته حول عودة محتملة إلى جنيف لحل الأزمة السورية.
ما سبق يرتبط بصلة وثيقة على ما يبدو مع تأكيدات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال جولته الخليجية مؤخراً من أنه ليس هناك أي حاجة لإطلاق أي مسارات جديدة لحل الأزمة السورية، على اعتبار أن مسار أستانا يبلي بلاء حسن، وبدل إحياء مسارات جديدة أشار لافروف حينها إلى إمكانية انضمام فاعلين دوليين جدد إلى «أستانا».
كذلك فإن من مؤشرات ما حمله بيدرسون إلى العاصمة دمشق، هو ذكره مؤخراً في مقابلة صحفية، إذ إنه على الرغم من تركيزه على قرار مجلس الأمن الدولي 2254 ومضامينه الرئيسية، إلا أنه أعاد التذكير بالسلال الأربع التي طرحت في جولات جنيف، وقال: «هناك اتفاق مسبق حول المبادئ السياسية الـ12 و«السلال الأربع» التي تتعلق بالحكم والانتخابات والدستور، والأمن ومكافحة الإرهاب، وهي من مخرجات جولات جنيف لحل الأزمة السورية».
وفي مؤشر آخر على رغبة أميركية في إعادة خلق مسار جديد لحل الأزمة السورية أو إعادة إحياء مسارات أكل عليها الزمان وشرب، اعتبر بيدرسون أن «قوات سورية الديمقراطية – قسد» لاعب مهم في شمال شرقي سورية، وقال: «هذا موضوع يجب أن نواصل مناقشته»، وأتت إشارة بيدرسون بالترافق مع مطالبات كردية متواصلة ظهرت بعد قرار الانسحاب الأميركي من سورية بضرورة انخراط «مجلس سورية الديمقراطية – مسد» الجناح السياسي لـ «قسد» المدعومة أميركياً، بالحل السياسي للأزمة السورية.
يمكن الملاحظة من خلال ما سبق أن هناك توجهاً دولياً لإعادة إحياء مسار جنيف لحل الأزمة السورية، المسار الذي لم ينجح على مدى سنوات حتى من توحيد المعارضة في وفد واحد، وإن نجح شكلياً في ذلك في آخر جولاته، إلا أنه سرعان ما انسحبت ما تسمى منصة موسكو المعارضة من ذلك الوفد، واليوم باتت واشنطن تبحث عن دخول جديد لها على خط الحل السياسي، باعتبارها هي والغرب باتا يضعان معادلة «العقوبات على الشعب السوري + إعادة الإعمار= حل سياسي على أساس دستور جيد» وهو أخطر من الحرب التي شنت على سورية على مدار ثماني سنوات سابقة، وإذا كانت سورية والسوريون قد اختاروا أن يفقدوا فلذات أكبادهم وأن تدمر منازلهم على أن تمس كرامتهم، فلن يقبلوا إعادة إعمار تلك المنازل مقابل المس بكرامتهم وسيادتهم الآن، وهم مستعدون لحرب جديدة لسنوات قادمة ويؤثرونها على المساس بثنائية «السيادة والكرامة»، وهو أمر يجب على المبعوث الأممي بيدرسون التدقيق فيه قبل أي طرح من هذا النوع على دمشق.
السؤال الأبرز، بما أن الباب مفتوح أمام من يرغب في الدخول إلى مسار أستانا، لماذا يبحث الغرب ودول الخليج المعادية لسورية عن مسار جديد؟ ولعل الإجابة المتوافرة عن هذا السؤال تكمن في طبيعة تشكيل مسار أستانا، فبداية أن تكون إيران في مسار كهذا، فهذا يمثل معضلة بالنسبة لأميركا والخليج بالدخول إليه، من جهة ثانية فإن وجود تركيا في مسار أستانا بهذا الشكل الفاعل يمثل عقبة أمام كل من السعودية والإمارات وحتى مصر للدخول إليه، وفي الوقت نفسه لن تقبل «قسد» بالدخول إلى مسار أستانا تحت البند نفسه الذي يصنف التنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة في البلاد، كما أن السيطرة الروسية على المسار لا تتناسب مع العنجهية الأميركية، ومن ثم فإن كانت لدى واشنطن والدول العربية المعادية لسورية هواجس ذاتية من الدخول إلى مسار أستانا، فهذا لا يعني الولوج إلى مسار جديد لحل الأزمة السورية، وهو أمر يجب على المبعوث الأممي بيدرسون التدقيق فيه أيضاً قبل أي طرح من هذا النوع على دمشق.
أخيراً، إن حديث بيدرسون عن مضامين القرار الأممي، من قبيل أن تفويضه الأممي في القرار 2254 «واضح، وهو التعامل مع الحكومة التي يرأسها الرئيس (بشار) الأسد»، وأن «الأمم المتحدة لا تقرر مَن هو في المعارضة ولا مَن هو في الحكومة ولا الرئيس السوري»، وأن القرار الأممي يبدأ ويؤكد احترام سيادة سورية ووحدتها ثم يتحدث عن معاناة الشعب السوري الطويلة ثم محاربة الإرهاب، ليست منحة من بيدرسون ولا من غيره لسورية ولا للسوريين، بل هذه حقائق شرعية قائمة على الأرض، وهي نتاج ثماني سنوات من مقاومة الحرب على سورية وتحقيق الانتصار على الإرهاب وداعميه، وانطلاقاً من ذلك يمكن القول إن بيدرسون مازال يدور في حلقة مفرغة من الكلام المنمق الجميل، ولم يقدم بعد أيّ مبادرات حقيقية تلامس الواقع، الأمر الذي يعتبر شرطاً ضرورياً ورئيسياً لنجاح مهمته في القادم من الأيام.

Exit mobile version