Site icon صحيفة الوطن

القاعة الشامية والدهان العجمي فن عربي أصيل… إبداع لمواد جديدة ساعدت في تنفيذ الأعمال بدقة

منير كيال :

لئن تميّز الثلث الثاني من القرن العشرين، بتفجر الروح القومية للتخلص من ربقة التمزق والتبعية للدولة العثمانية، وفي مجالات الحياة الأخرى سياسية كانت أم أدبية فكرية وفنية، فإن ما كان في مجال العمارة وزخرفها كان له سمة مميزة.
ففي القرن العشرين بُني في دمشق مجلس الشعب ومدرسة التجهيز «ثانوية جودة الهاشمي» وبناء لجنة مياه عين الفيجة.
وعلى الرغم من أن المظهر العام لهذه الأبنية يدل على أن هندستها مستمدة من العمارة العربية، إلا أن مخططها العام وتقسيماتها الداخلية، تلبي حاجات العصر المعاصر لبناء كل منها، لكن من الجدير بالذكر الإشارة إلى فن عربي أصيل تمثل في أعمال دهان الأعمال الخشبية التي تحيط بجدران الغرف والقاعات والردهات الأساسية بالبناء المعروفة باسم الحلقة الخشبية.

وقد عرف العرب حرفة الدهان العجمي على الخشب وتذهيبه منذ العصر الأموي، ذلك أننا نجد بالمتحف الوطني في دمشق قطعاً من الخشب، أخذت من قصر الحير الغربي، وقطعاً أخرى تعود للعصر العباسي وجد بتنقيبات الرقة، وقد بلغ الدهان العجمي درجة عالية من الفن والرقي في العهد الأيوبي والمملوكي ثم في العهد العثماني.. ولعل إطلاق تسمية: الدهان العجمي نسبة لبلاد العجم، إنما هو بسبب شهرة إيران بحرفة الدهان هذه فشاعت التسمية.
ويمكن أن نميز بين نمطين من هذا الدهان، النمط الأول ما كان يطلى به طزران «طزر أو وحدات» سقوف القاعات التي كانت زخارف الواحدة منها، أشبه بسجادة عجمية بألوانها ورسمها، وهذا النوع من الدهان للسقوف عرف باسم الدهان الحريري العجمي وهو يتميز بلمعانه الذي يكسب السقف ألقاً ووهجاً، في حين كان النوع أو النمط الآخر من هذا الدهان العجمي ناشفاً أي من دون لمعان لأنه مستخلص من تركيب ترابي خاص على عكس تركيب دهان السقوف الذي يدخل بتركيبه الزيت «زياتي» وفي جميع الأحوال، فإن هذا النوع الترابي «الناشف من الدهان كان للحلقة الخشبية المشار إليها، وهذه الحلقة تُغلف جدران القاعات والغرف الرئيسة بالدار، مع أطناف كتابي وشبابيك وأبواب هذه الغرف، وقد نُقش عليها رسوم نافرة لأغصان وأزاهير وعروق نباتية وأشكال هندسية وأقواس.
أما القاعة الشامية القائمة بالجناح الغربي من المتحف الوطني بدمشق فلها حكاية تتصل بما هو عليه فن الدهان العجمي من رقي وذوق وإبداع.
يعود أصل هذه القاعة إلى السيد جميل مردم بك، الذي كان أحد رجال الكتلة الوطنية التي عملت على مقارعة الاحتلال الإفرنسي لسورية، وقد استهدفت الطائرات الفرنسية دار السيد مردم بك التي كانت في محلة السليمانية بالقرب من البيمارستان النوري فهدمت أجزاء كثيرة من الدار بما فيها القاعة الشامية.
فكر مردم بك بالاحتفاظ بالعناصر الفنية العائدة للقاعة الرئيسة في الدار، ليعيد إنشاءها بقصر يريد بناءه في دمشق فكلف المبدع الفنان أبو سليمان «محمد علي الخياط»، أن يعمد إلى فك الأجزاء الأساسية من القاعة للاحتفاظ بها ريثما ينجز بناء قصره وبالتالي ليقوم أبو سليمان بالعمل على إعادتها كما كانت عليه عندما يحين الوقت المناسب وقد قام المصور جورج درزي بالتقاط مجموعة صور فوتوغرافية للقاعة قبل فكها كما رسم مخطط القاعة وواجهاتها ومقاطعها الفنان الرسام كمال الكلاس.
لكن جميل مردم أهدى خشبية هذه القاعة إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف مع ما تبعها من رخام مفصص وبحرة رخامية فكان أن قررت المديرية العامة للآثار والمتاحف، أن تطلب إلى الخياط القيام بتركيب خشبية هذه القاعة بجناح قاعة المحاضرات بالجهة الغربية لبناء المتحف الوطني فوافق الخياط على ذلك.
وأذكر أني لما قمت بزيارة الخياط بمنزله بحي المهاجرين قال لي: إنه أراد من قبوله هذا العمل، أن يجعل منه درّة فنية تفوق جميع أعماله المبدعة أكان ذلك بقاعة مجلس الشعب أو بناء قصر لجنة مياه عين الفيجة بل بكل عمل أبدعه في سورية وخارج سورية ولعل من الوفاء أن نقف بعض الوقت مع الفنان الخياط، لنلقي بعض الأضواء على مسيرته الفنية، فقد ولد محمد علي «أبو سليمان» الخياط بدمشق سنة 1880م من أسرة اشتهرت بالأعمال الفنية على الخشب، كان والده يعمل بصناعة الصناديق الخشبية المزينة بالحفر وتطعيمها بالصدف والعظم والقصدير ولما كان أبو سليمان على درجة عالية في عمله، أجازه والده افتتاح محل خاص به، يمارس به عمله كان محل الخياط هذا في زقاق الحمراوي شمالي قصر العظم، وعلى الرغم من أن أبا سليمان نشأ أمياً، فقد كان يميل إلى الإبداع والتجديد، لذلك مدّ بصره إلى أبعد ما كان عليه والده وأعمق.
وبعد وفاة والده سنة 1912م أنشأ ورشة جديدة في سوق البورص المجاور لسوق الحميدية وعمل على تدريب أولاده على أعماله حتى غدت له شهرة كبيرة.
ولما أراد دولاريه مدير معهد الدراسات الشرقية، وكان مقره في قصر العظم، طلب دولاريه إلى أبي سليمان ترميم قصر العظم مما أصابه نتيجة لقصف الطائرات الفرنسية، فأعجب دولاريه بما قام به أبو سليمان من أعمال ترميم القصر، ولما سأل دولاريه الخياط عن المدرسة التي درس بها وتخرج فيها أجابه أبو سليمان: إنها مدرسة الأخشاب، فقال دولاريه: وهل في سورية مدرسة للأخشاب؟ فأمسك أبو سليمان بقطعة من الخشب ونقر عليها بقدومه وقال هذه القطعة من الخشب من خشب «….» ومضى على قطعها كذا من السنين وعمر شجرتها عندما قطعت كذا من السنين، ثم أشار الخياط بإصبعه إلى رأسه قائلاً: بهذا الرأس دماغ يعمل… وضربة المعلم بألف ولو شلفها شلف.
ولدى زيارة المهندس الفرنسي كافرو دمشق سنة 1924م تعرف إلى أبي سليمان، فأعجب بأعماله، ومن ثم طلب إلى أبي سليمان السفر إلى بيروت ليقوم بتجميل دار السيد هنري فرعون، وقد أمضى أبو سليمان بذلك العمل خمس سنوات، فقدم روائع الأعمال الشامية بهذا القصر… ثم كلّف كافرو الخياط ترميم قصر بيت الدين، فكان عمله أيضاً مثيراً للإعجاب.. ثم كلّفه بإصلاح السراي بدير القمر «قصر الأمير فخر الدين المعني».
وكان من أميز أعماله بدمشق تزيين وكسوة قاعة مجلس الشعب بدمشق وكذلك قصر لجنة مياه عين الفيجة، وكان خاتمة أعماله قيامه بكسوة قاعة المحاضرات بالمتحف الوطني وهي القاعة المعروفة باسم القاعة الشامية.
لم يقتصر عمل الخياط على صنع الأثاث النفيس، ولا على إعادة إنشاء القاعات الأثرية، وإنما تعدّى إلى القيام بأعمال كان من أهمها التوصل إلى جرِّ تركيب الدهان العجمي الترابي، ومعرفة مادة الملاط الذي تعتمد على الفسيفساء، وجعل هذه المادة اللاصقة لا تجف بسرعة حتى يتمكن الصانع إنجاز عمله بدقة… وهو الذي صنف فنون الحفر على الخشب وفق نماذج أطلق عليها تسميات تميزها عن بعضها ومن ذلك الحفر على الخشب بالأسلوب القيصري والعباسي والفاطمي والأيوبي، حتى لا تختلط أعمال كل أسلوب مع أي أسلوب آخر.. وكان أروع أعماله بالقاعة الشامية التي أضاف إليها مساحات لم يستطع الخبراء تمييزها عن الأجزاء الأصلية.
تتكون القاعة الشامية من أربع وحدات أو أقسام وهي: العتبة، الطزران الجانبيان والغرفة الداخلية الشمالية، وقد تميزت العتبة بسقفها العالي، ولهذا السقف رقبة عالية «مرتفعة» وتتألف واجهتها الشمالية من باب ومصبين يحيط بهما مداميك بيضاء وسوداء متناوبة، ويعلو كلاً من المصابين نصف قبة مقرنصة، أما قوسا المصبين فهما من رخام أسود وأحمر، يتخللهما رخام أبيض.
إلى جانبي كل من المصبين عمودان من الرخام بتاجين وقاعدتين وقد كُسي داخل كل مصب بالرخام الأبيض والأحمر والأسود، بأشكال هندسية، أما أرض العتبة فمفروشة بحصيرة من الرخام يتوسطها فسقية. والطزران متناظران، ولكل منهما في جهاته الثلاث نافذتان بينهما خزانة «خرستان» وأعلى النوافذ مزين بألواح رخامية بيضاء وسوداء تستند إلى عناصر زخرفية.
ويربط بين الطزرين والعتبة قوس كبير يشكل واجهة للطزرين، وهذا القوس مزين بزخارف محفورة بالجص الملون تستند إلى عناصر هندسية تُعرف باسم الأبلق.
أما الغرفة الداخلية، فيدخل إليها من الباب المواجه لباب القاعة الرئيسي بصدر العتبة، ويُرقى إليها بدرجتين، وقد زينت جدرانها بكسوة خشبية تتألف من كتبيات وأبواب وألواح من الخشب مزينة بزخارف نباتية وهندسية نافرة مدهونة بالألوان الذهبية، مع حشوات مكتوبة بالخط الفارسي النافر المذهب ببيت شعر من القصيدة الهمزية للبوصيري المتوفى سنة 694 للهجرة، وقد جمعت هذه الكسوة وانتهت من الأعلى بطيف بارز مزين بنوعين متناوبين من الزخارف الأول منهما زخارف شبه هندسية وزخارف النوع الثاني نباتية ويفصل بينهما فراغات مقرنصة صغيرة.

Exit mobile version