Site icon صحيفة الوطن

أحضان الشوك

ليس من باب التشفي، بل من باب التذكر للزمن الجميل، حين شدا العندليب (حتى في أحضان الحبايب شوك)، قال عبد الرحمن الأبنودي أول مرة قصيدة في الحب، وهو الشاعر المغمس بالأرض وعشقها، وهو صاحب (عدى النهار) و(مسيح) و(أحلف بسماها)، الأبنودي الذي عاش للأرض والحب للوطن وختم شعره بأنه عشق حتى الزنازين في سجون جمال عبد الناصر في قصيدته (يعيش جمال عبد الناصر)، فهل من عبث أن يختار من الحب أحضان الشوك، وهو المنحاز دوماً إلى الوطن، وليس من حق أحد أن يلومه وإن خالفه، فالأبنودي جرب السجن في وطنه، ولم يكن مرتاحاً في زمن جمال، ولكنه أمام الانحياز لمصر في مواجهة الآخر، وفي جانب الإباء مقابل الخنوع، وفي جانب الفقراء مقابل ما عانى هؤلاء عندما فقدوا أباهم والوطن انحاز إلى أن يكون في وطن عشقه وأحبه مهما كان قاسياً، فأحضان الحبايب وإن كانت شوكاً إلا أن رحمتها أعظم من أحضان الأغراب!
ينعتون الشعراء دوماً بالشطحات والجنون، وقد يمثل الأبنودي قمة هذا الجنون، ولكن ما حدث سابقاً وما يحدث أظهر بلا أدنى شك أن الشاعر بخياله المجنح وجنونه قادر على اكتشاف ما لا يكتشفه الباحثون والسياسيون والمنظرون والمنتفعون، ومن هنا كان أهم مصطلح يطلق على الشعراء الحقيقيين، وهو مصطلح الاستشراف، فالشاعر العظيم إباء، والإباء لا حسابات له سوى أن يكون في مكانته أبياً وعظيماً وباقياً، الشاعر العظيم يتناول خبزاً حافاً ولا يكترث لمجمع المطاعم العظمية، يستاف التراب ويشكر الكبرياء، لا يعنيه المشروب والسيجار وربطة العنق والفنادق الفارهة، لذلك يقدم رؤية استشرافية مبنية على الصدق والحدس وحدهما، وهي الصحيحة دوماً وإن طال الزمن بالإنسان.
يعود الأبنودي بأناشيده للوطن من الصعيد إلى شط الاسكندرية ليمثل قمة من الفهم الحقيقي للوطن، والمتابع والقارئ أمام ما يجري على الأرض العربية منذ عقد من الزمن، وهو يرى الفوضى الخلاقة بأبهى صورة، وهو يتابع صور الحمقى في كل مكان، وهو يتابع سلسلة من الأكاذيب التي تنتهي، وهو يسمع ليّ الألسنة كل صباح حسب الحالة التي يتعرض لها الناس.. أسلّم مع من يقول بأن هناك مشكلات في الوطن، وبأن الفساد استشرى، والشاعر يقول:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
أهلي وإن ضنّوا عليّ كرام
أسلّم جدلاً بوجود مثل هذه الحالات المزعجة والمرهقة من الفساد ومن المحسوبيات، ومما شئت من اتهامات لا نهائية، وهي في بعضها صحيحة، وسمة من سمات الحياة في الكون كله وعبر الأزمان، مذ قتل قابيل أخاه هابيل في بداية رحلة الإنسان في حياتنا، على الأقل من الناحية العقدية الإيمانية، ولكن ما السبل لمقاومة الفساد والانحراف؟ ما الطرق للخلاص من ظلم أشخاص قاموا بظلمنا؟
الحل ببساطة بالجنوح إلى الصدق والمصداقية وتغيير الواقع من خلال أشخاص آخرين، هؤلاء يمثلون نوعاً من التحول التدريجي للتخفيف من مقدار الفساد لا لإنهائه، ومن أجل مصالح العامة لا مصالح الخاصة! وهكذا يمكن أن يتم التحول التدريجي مع الحفاظ على المكتسبات، ولكن ما حدث في أرجاء الوطن العربي مخالف، فلا السدود بقيت سدوداً ولا النهر العظيم بقي عظيماً، ولا المتاحف حافظت على متحفيتها ذاكرة لتاريخ وطن وجغرافيا ومجد!
وكل ذلك يهدف أمام الإنسان الذي يفترض فيه الحكمة والتفكير والاعتبار، وهنا لا أدعو إلى الاعتبار بقابيل وهابيل، فالمسافة بعيدة، وقد يراها بعضهم تخضع للعقيدة والميثولوجيا وأنها غير صالحة كمعيار اليوم وفق السياسة التي وصلت مرحلة العلم المعمّق، ولم تعد تصرفات فطرية كما قد يرى كثيرون ممن يمتهنونها!
أدعو للقراءة والاعتبار باليوم، وليس بالأمس القريب، فالأمس مهما كان قريباً انتهى وطوى صفحته بكل بساطة ويسر، وبكل قسوة وعنف، بل الاعتبار باليوم، بالآن، باللحظة..!
كم تغنينا بأكلت يوم أكل الثور الأبيض، وبدل أن نتعظ قام كل واحد منا بتغيير لونه ليصبح أبيض، ليكون مأكولاً!؟ وليس ليصبح مأكولاً وحسب، بل ليكون مأكولاً من الأغراب بعد أن ارتمى بحضن غريب! فقد وجد أن أحضان الحبايب الشوكية، على تعبير الخال عبد الرحمن الأبنودي، ولم يقرأ أن الخال الذي شكا من أحضان الحبايب الشوكية، سجن وناله ما ناله، لكنه حافظ على تغنيه بأحضان الحبايب، وكتب فيمن سلبه الصوت ذات زنزانة، وامتدح أنه أبقاه على بساطته وإنسانيته وصعيديته!
من يقصد الثور الأبيض فلن يختلف طعم لحم الثور عند بلوغه مرحلة الجوع، حضن الحبايب وحده، وإن نال منك، لأنه أخوه اقتدى بالغراب، ووارى سوءته، واكتفى بلعنة القتل، ولم يجلب كاميرات العالم لتصوير الجثث الملقاة قبل التمثيل أو بعده! لأنه أخوه لم يغادره للوحوش الضارية تنهب لحمه، ولم يترك عموده الفقري للأيام القادمة ليصبح سماداً أو نفطاً!
(من يهن يسهل الهوان عليه) الذي يبيع ذاته للآخر أو لمصلحته، وبالنتيجة للآخر، فإنه قادر على البيع في كل لحظة، وقادر على أن يسوّغ هذا البيع كلما سنحت له فرصة من بيع وشراء.. (ما لجرح بميت إيلام) من يجلس ووراءه البنايات الفخمة أو الجسور، ومن يجلس في الداخل على مقعد وثير ليتحدث، كلهم سواء، جميعهم يملكون القدرة على تحقيق فعل الألوهة في ذواتهم، ويملكون القدرة على الارتماء في حضن غير حضن الحبايب، ولا يكتفي واحدهم بخسارة على طاولة القمار، بل يلعب ويلعب، وربما باع زوجته وبناته للمراهنة واللعب، حتى يتلاشى، فيلعب الدور الأخير بمراهنة على ذاته وطاولته.. ولوثة المقامرة تقتل صاحبها، يراهن على كل شيء، يقامر بكل شيء، ينساق وراء إحساسه بالعجز، ويرمي بيده بإحساس الفوز، وفي كل حال يراهن بما تبقى.. وحين تنقلب الطاولة على المقامر سواء كانت المقامرة في بيت فخم للقمار، أم كانت في جحر قذر يتوهم أن كل شيء انتهى، ولكنه حين يختفي تبقى الطاولة، فيتناول الإنسان عليها طعاماً، أو يجلس عليها طفل ليقرأ كتاباً للتاريخ، فتدمع عيناه، ويحلف ألا يبيع نفسه للشيطان أو ألا يرتمي بأحضان الأغراب الناعمة، ويغمض عينيه مستريحاً في أحضان شوك الحبايب.

Exit mobile version