Site icon صحيفة الوطن

«هوني السما قريبه»

لربما يمكن رصد صورة للمسار الذي أراد الشارع اللبناني أن يختطه بدءاً من 17 تشرين الجاري فصاعداً، تتحدد أطرها عبر مقولة أن ذاته الجماعية التي ذابت فيها للمرة الأولى منذ قيام الكيان قبيل مئة عام حدود الطوائف والمذاهب والاقطاعات الأميرية، قد ارتأت أن الأحاديث تحت سقف المؤسسات ودوائر القرار لم يعد يجدي، والمجدي هو الخروج إلى الفضاءات التي لا سقف لها فهنا تكون «السماء قريبه» وما من عازل بين هذي الأخيرة وبين ما يراد قوله.
بعد مرور أسبوع على بدء احتجاجات الشارع اللبناني التي عبرت عن رغبة جامحة في نسف كل هذا السطح السياسي المأزوم، الذي يتحمل إلى حد بعيد المآلات التي سارت إليها حال البلاد أقلة في اتباع سياسة مراكمة الأزمات والإرسال بملفاتها إلى أرشيف اتخمت رفوفه حتى لم تعد قادرة على إضافة وافدين جدد، يبدو أن رسم صورة «بروفايل» واضحة للمشهد المتولد عنها لا يزال أمراً متعذراً، والعذر نابع هنا من غياب أي إجابات محددة لتساؤل مهم يتمحور حول ما إذا كان حراك الشارع الحالي هو تعبيراً عن أزمة حكم أم تعبيراً عن أزمة نظام، وإن كان من الممكن إجراء مقاربة ستكون متغيرة بشكل متسارع تبعاً لتطورات شديدة الالتصاق بتموضع القوى والتيارات السياسية الداخلية التي لم تتلمس إلى الآن خنادقها التي ستدافع منها، وكذا بعلاقة هذي الأخيرة بالخارجين الإقليمي والدولي اللذين يبدوان حتى اللحظة بعيدين عن اتخاذ خيارات نهائية.
على مشارف مئويته يقف لبنان على حدود خطر تكشف الرماد عن الجمر، وهو في حالته الراهنة يبدو مختلفاً عن سابقاتها العديدات التي يمكن رصدها ما قبل 17 من الشهر الجاري، كانت الأعوام الأربعة عشر الماضية قد شهدت الكثير من محطات الافتراق في الشارع، وهي تزامنت مع غياب أي ديناميات لمعالجتها، وعبرها تراكم المزيد من الانقسام السياسي والمجتمعي الذي أحدثه اغتيال رفيق الحريري وهو تمظهر عبر ثنائية 14 و8 آذار، تلتها حادثة عرفت باشتباكات الجامعة العربية في كانون ثاني 2007 ثم أحداث بيروت 7 أيار 2008، لتدخل البلاد في دوامة أصبح فيها من الصعب حدوث تلاقيات حتى عند أهون الشرور، حتى إن وصول الرئيس ميشال عون إلى السلطة في أواخر تشرين الأول من العام 2016 لم يكن يمثل في وجهه الآخر خطوة على ذلك الطريق، وإنما كان لحظة توافق إقليمية لمنع الانفجار، ومع ذلك جاءت التسوية التي أدت إلى ذلك الوصول هشة كما يبدو وهو ما أبرزته حادثة «قبرشمون» في حزيران الماضي، وجه الاختلاف الراهن مع السياقات السابقة يتأكد عبر نزعة واضحة في الشارع تريد تجاوز المحاصصة الطائفية التي قام عليها اتفاق الطائف 1989 والذي لا يزال لبنان السياسي يستظل بظله إلى هذه اللحظة.
ربما يتبدى من بعيد أيضاً نزعة أخرى تريد إعادة النظر في ميثاق 1943 الوطني الذي نظم أسس الحكم في لبنان، وعلى الرغم من أن هذا الأخير كان سياسياً، وغير مكتوب، إلا أنه ترافق أيضاً بنزعة اقتصادية ليبرالية كانت مفرطة قياساً إلى توجهات كانت قد بدأت ترتسم ملامحها في دول محورية في المنطقة وهي ذات نزعة اشتراكية، هذي النزعة يمكن تلمسها اليوم عبر تعالي الأصوات المطالبة بإسقاط حكم المصارف والبنوك وسياساتها الناظمة لكل ملامح الحياة اللبنانية.
تدهور الحالة المعيشية في لبنان له أبعاد عدة، لكن ما فاقم تلك الحالة عاملان اثنان أولهما عطب «الرئة» السورية بفعل الأزمة التي تعيشها هذي الأخيرة منذ ثماني سنوات، وثانيهما هو الضغوط التي مورست على لبنان وأهدافها المقروءة جيداً، وهي دفع هذا الأخير نحو انسياق إجباري في «المجرى» الذي تختطه «صفقة القرن» الذي بدا أن لبنان غير راغب فيه، وربما لا يستطيع، خوض غمار مطباته، إلا أن ذلك التدهور قد فتح الأبواب اللبنانية برمتها على مصاريعها، وهو بعد مرور وقت قصير بات يهدد كل ما راكمته سنو قرن مضى من منصات وزعامات كانت لها حيثية معينة في غرف صناعة القرار سواء أكانت في السلطة أم خارجها بل إن البعض منها كان يفضل في أحايين عدة هذه الحالة الأخيرة التي قد تحقق في بعض الحالات مكاسب أكبر.
ما بعد اليوم بات من الصعب الوصول إلى تسوية تقليدية من النوع المعتاد عليه في لبنان، فالخارج الإقليمي، أو على الأقل القوى المؤثرة في لبنان، لا يبدو مستعداً بفعل انشغالاته إلى لعب دور الإطفائية أو المساعدة في تقديم الماء، وربما كان ذلك واضحاً في ردود أفعال الشارع على «الورقة الإصلاحية» التي تقدم بها رئيس الوزراء سعد الحريري في نهاية مهلة الـ72 ساعة يوم الإثنين الماضي، وكان «احتراق» الورقة يعود إلى طرحها في وقت لم يكن مناسباً أو هو متأخر، ومن المؤكد أن تلك الإجراءات التي تضمنتها كانت ستشكل نقله مهمة على طريق إحداث فجوة في مسار الأزمة لو قدمت ما قبل اضطرام النار في 17 من تشرين الجاري، وما يجب أن يكون حاضرا الآن هو أن فعل «الجوع» من شأنه أن يسخف أكبر الشعارات وأعتى أنواع الأديولوجيا.
لبنان اليوم أمام فرصة تاريخية يمكن، إذا ما غاب التشنج فيها وكذا تغليب العام على الخاص، تحقيق قفزة نوعية على طريق استعادة الدور والوظيفة المفتقدين منذ الحرب الأهلية التي لم تزل ندباتها بادية على السطحين السياسي والمجتمعي للبلاد، والشارع يبدي حالة استعداد لفرض تغيير جذري في تكوين السلطة بدءاً من الهرم ووصولاً إلى القاعدة، وفي أتونة تبني سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية قادرة على استعادة الدور الذي لعبه في الخمسينيات والستينيات حتى منتصف السبعينات.

Exit mobile version