Site icon صحيفة الوطن

الآثـار السّـورية بتقنية ثلاثيـة الأبعَـاد … توفير سبل الترميم المحلي والوقائي وتوثيق الآثار بقدر المستطاع من التفصيل

سَارة عيسَى :

يتعاظمُ دور الدول التي تعبرُ من خلالها الممتلكات الثقافية السورية، وتتطور طرقُ التهريب وتتنوع أساليبها، حتى تصل هذه الممتلكات إلى غايتها المرسومة مسبقاً في أوروبا وأميركا. تتواجد عصابات «آثار الدم» في كل مكان، وتتفرع شبكتها العالمية لأماكن شتى، ولاسيما في مناطق الحروب، وقد كشفت الحرب على سورية دور الدول المجاورة الخبيث في اجتثاث الحضارة من منبتها الأول.

لعبتْ تركيا في الحرب على سورية أدواراً عديدة، من بينها تهريب الآثار لبلدان الغرب، فكانت أول وسيط لجريمة حرب يُحاسب عليها القانون الدولي. تحصل صفقة بيع آثارنا على مراحل متتابعة؛ تبدأ في مقاهي استنبول، فتتم فيها الصفقات على النحو التالي: يدخل عدة شبان، يراقبون رواد المقهى، ثم يختارون أحد الأوروبيين. يقترب منه أحدهم ويطلب الجلوس، بعد حديث سريع يعرض عليه صوراً مخزنة على هاتفه المحمول، الأمر يحتاج لنصف ساعة، فإن اقتنع الزبون واستطاع الشاب الحصول على رقم هاتفه، يتقاضى من مهرّب الآثار مئتي دولار. الطريقة لا تسبب لصاحبها أي مساءلة أو مخالفة، فهو لا يملك القطع ولا أي إثبات سوى الصور التي يمكن أن يقول إنه حصل عليها من الإنترنت. القطع الأثرية بحوزة أصحاب الياقات البيضاء الذين يعود لهم العائد الأكبر من بيعها، وقد صرح مسؤولون أتراك بأن داعش لن تستفيد من عائدات بيع هذه الكنوز، فمعظمها وجد خلال غارات الولايات المتحدة على قياداتها. وهذا دليل دامغٌ على مشاركة الأتراك التي تتجاوز صنع أشرطة فيديو تظهر فيها داعش وهي تُدمر تلك الكنوز. بحسب موقع المونيتور فإن أحد المحامين في مدينة حدودية قال إن الاتجار غير المشروع لا يمكن منعه بشكل كامل، لأن العصابات التي تدير هذه الجريمة لها اتصالات سياسية بالأتراك من جهة، ومن جهة أخرى السلطات المكلفة بمراقبتهم ومحاسبتهم تمّ ترتيب الأمور معها مادياً وحصلت على حصتها، أي هناك شبكات عميقة الجذور يصعب كسر خيوطها، وبالتالي لا يتم تطبيق أي قانون ذي صلة.
حتى خبراء الآثار في تركيا لا يستطيعون معرفة وإحصاء عدد الآثار المنهوبة الموجودة بين يدي الحكومة التركية، فقد ظهرت آلاف القطع على التلفزيون التركي لكن لا أحد يستطيع الجزم أي منها الأصلي، من الذي ضُبط عدة مرات وحُرر، أو هُرّب إلى الخارج. وبحسب أحد المراقبين فإن الجميع ينظر إلى تركيا على أنها بلد عبور، إلا أن قوة الانترنت صاحبة الدور الأكبر، فالتجار يجدون المشترين من جميع أنحاء العالم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، أما الصيغة النهائية للشراء فتتم في تركيا. يلعب هذا البلد الدور الأكبر في تهريب الآثار حتى قبل الحرب على سورية، وهناك العديد من تصريحات المديرية العامة للآثار والمتاحف مضمونها تحفّظ الحكومة التركية على القطع الأثرية التي تصل إليها والسكوت عنها، ولم تكف تركيا عن دورها التدميري منذ مئات السنين.
لمكافحة التدمير الهمجي واللعنة البربرية المتفشية، قرر بعض الخبراء بشأن باقي المواقع في بلاد ما بين النهرين، أن يعطوا للنشطاء في سورية كاميرات تصوير ثلاثي الأبعاد، لتصوير الآثار قبل أن يتم تدميرها. يهدف هذا المشروع إلى توفير سبل الترميم المحلي والوقائي بحسب الموارد المتاحة. يتدافع المتطوعون في سورية لتوثيق التدمير الذي حلّ والتأكيد على ما تبقى من مواقع، والقصد من ذلك توثيق الآثار بقدر المستطاع من التفصيل، ليتمكنوا من دراستها أو إعادة إنتاجها بنسخة دقيقة مطابقة للأصل. قال روجر ميشيل الذي يعمل في مشروع الآثار الرقمية لمعهد أوكسفورد: «إن مشروع المليون صورة هذا، المدعوم من قبل اليونيسكو، يهدف إلى إغراق المنطقة بكاميرات ثلاثية الأبعاد منخفضة التكلفة وسهلة الاستخدام، تسلّم إلى نشطاء لتوثيق الآثار في مناطقهم». لا تتجاوز قيمة الكاميرا الخمسين دولاراً، وتأخذ صورة مجسمة للآثار ذات تفاصيل تقاس بالسنتيمتر. أضاف ميشيل: «الفكرة هنا هي الحصول على أكبر عدد من الصور للآثار قبل تحطيمها من قبل داعش». نُـشر حتى الآن ألف كاميرا في سورية، العراق، اليمن، أفغانستان، تركيا، الأردن ومصر، وتتضمن الخطة توزيع 5000 كاميرا في المنطقة بحلول العام المقبل، بتكلفة كلية من 3 إلى 6 ملايين دولار.
يمكن لمستخدم الكاميرا تحميل الصور أو مقاطع الفيديو إلى الموقع الإلكتروني للمشروع مباشرة، الموقع مغلق بالنسبة للعامة لحماية خصوصية النشطاء وضمان بقاء المشروع ذا صفة علمية، وليس منصة للتواصل الاجتماعي للنشطاء. قالت الكسي كارينوفزكا، المديرة التقنية للمشروع ومصممة واجهة الويب: «عندما يتطور المشروع أكثر، سنجد وسيلة للتواصل مع الجمهور».
رُبط المشروع مع شركة صينية للطباعة الملموسة، لإعادة النظر في نهاية المطاف في المواقع المدمرة. ومن شأن مشروع منفصل أن ينفّـذ مسوحاتٍ أكثر تفصيلاً للآثار السورية، باستخدام الليزر والماسحات الضوئية التي ترتد عن الأجسام المقابلة وتقيس الملايين من النقاط، وخلال ثانية تشكل مجموعة من البيانات معروفة بـسحابة النقاط، البيانات يمكن استخدامها لخلق صور ثلاثية الأبعاد عالية الدقة (2-3 ملم)، سواء لنماذج ثابتة أو جولات افتراضية للمواقع، تصل إلى السماح بإعادة بناء واسع النطاق. ولكن بما أن المسح ذو مستوى عال من الدقة فإنه يتطلب خبراء مختصين برفقة قوى أمنية لزيارة المواقع وفحصها على مدى طويل من الزمن. يساهم المشروع بصنع بصمة في المناطق الخطرة أكثر أهمية بكثير من الكاميرات ثلاثية الأبعاد. ويهدف المشروع الذي يطلق عليه آنكا «Anqa» وهي كلمة عربية تعني طائر الفينيق، الأسطورة الذي يقوم من رماد سابقه، يهدف لمسح ليزري لـ200 قطعة من سورية والعراق وغيرها من دول المنطقة، وهو ما صرح به مدير شركة ساي آرك (CyArk) للمسح الضوئي ومقرها كاليفورنيا، والتي ستعمل مع مديريات الآثار في سورية والعراق بالتعاون مع اليونيسكو لنشر فرق في شمال وجنوب العراق ودمشق، ولكن لم تُحدد حتى الآن المواقع التي ستخضع للمسح. موقع واحد قام بمسحه وهو مقابر كاسوبي الملكية في أوغندا، حيث تم إشعال النار فيه عام 2010، والآن تستخدم الحكومة الصور لإعادة إعمارها. بعد غزو داعش للكثير من المناطق الأثرية في بلاد ما بين النهرين، ركزت ساي آرك على توثيق التراث في المنطقة.
في سياق متصل ترعى وزارة الخارجية الأميركية ومتحف ميتروبوليتان للفنون، ندوة للخبراء في المتحف بتاريخ 29 أيلول، يتكون من فريقين من الخبراء لمراجعة القوانين الدولية في مكافحة جريمة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية السورية والعراقية، ومناقشة مبادرة جديدة لمكافحته. موضوع حلقات النقاش الأساسي هو نهب داعش للآثار وعمليات الحفر واستخراجها، وعلاقتها بالتجارة الدولية لتمويل عملياتها الإرهابية، والتأكيد على اتخاذ إجراءات قانونية فعالة للحد من أنشطة المهربين، وتقويض هذه الشبكة الدولية للاتجار بآثار الدماء، وتشجيع القطاعين العام والخاص على تعزيز حملات التوعية حول أفضل الممارسات للمتاحف وجامعي التحف وبيوت المزادات في جميع أنحاء العالم.
ضمّ المنتدى الذي عقد في مقر جمعية آسيا في نيويورك بتاريخ 25 أيلول، وزراء خارجية وكبار مسؤولين عالميين ومديري مؤسسات الفنون والجمعيات الأثرية، حيث وجهوا نداء يدعو لبلورة خطط عمل لمواجهة التطهير الحضاري، وفتح تحقيق بجرائم حرب ضد الكيانات التي تسهم في هذا التطهير، عن طريق المحكمة الدولية، إضافة إلى حملة عالمية لزيادة مستوى الوعي، اتخاذ الحكومات خطوات لمنع شراء الآثار، وتوخي الحذر من الجهات المعنية بالتراث، عند الحصول على القطع من البلدان التي تشهد نزاعات. كما دعت لإنشاء منظمات مثل «علماء آثار بلا حدود» لدعم البلدان التي تمر بأزمات.
سورية التي نشرتْ في العالم رسلَ العلم والمعرفة لتشرق فيه شمس الحضارة والسلام. سورية التي تُعطّر زائريها بالياسمين وتمدّهم بالأمان وتلفهم بحنانها. سورية مهما عانت ظلم القريب قبل البعيد، ومهما تاجر بحضارتها بربريو الماضي والحاضر، فهي ستبقى ترتدي حريرها الدمشقي وتتربع على كرسيها المرصع بالصدف، ولن يرقى لها أي طامح أو متسلق.

Exit mobile version