Site icon صحيفة الوطن

انتخابات اتحاد الكتاب.. منعطف أم تجديد؟ … الطموح إلى إدارة منظمة ثقافية والاحتماء ببطاقة حزبية وغياب للبرامج الانتخابية!

د. ناديا خوست :

كان يفترض أن تشغل الكتاب مسألة مقلقة هي الفراغ الفكري الذي نبه إليه السيد رئيس الجمهورية. فخلال الحرب على سورية ظهرت المسافة الشاسعة بين التعبير الثقافي والحاجات الروحية والوطنية. ماذا يتمنى الكاتب أكثر من الموضوعات الحارة التي تقدمها الحياة وتمر في أخبار صحفية؟ ليست معاناة الشعب السوري وبطولات الجيش المدافع عن الوطن أقل بلاغة مما غمس فيه الأدب السوفييتي ريشته خلال الحرب العالمية الثانية واستلهم منه فناً إنسانياً خالداً!

تُبرر الأزمة الثقافية الغربية اليوم بهول الانحطاط السياسي، وشعور كثير من المواطنين الغربيين بأن أوطانهم تدار بعيداً عن المصالح القومية. لكن سورية قلب العالم اليوم، مفصل المنعطف إلى عالم متعدد الأقطاب تحكمه القوانين، وتحترم فيه السيادة الوطنية. عاش الشعب السوري في خمس سنوات من الحرب ما تقطعه أجيال في خمسة قرون من مسار الوعي. اكتشفنا ما نخزنه من صبر وشجاعة، ومن إرث خبأته الجينات من الحضارات القديمة. ومع ذلك امتد قحط فكري موجع. لا قصيدة تروي الروح كقصائد الشعراء في الحروب الوطنية العظمى، ولا أغنية كالأغاني التي لا تزال أجيال روسية ترددها من أيام الحرب، ونلتمس فيها التعبير الحنون الصادق عن جنودنا في مطار أبو الضهور ومشفى جسر الشغور، حيث لم يكن يسمع «غير أزيز الرصاص في السهب، وصفير الريح في الأسلاك»، والمقاتل يفكر في الحبيبة التي لا تنام في الليلة الحالكة، وتمسح دمعتها سراً قرب سرير الطفل!
سبب هذا الفراغ؟ أن التعبير الذي يملأ الروح في الزمن الصعب، ويصبح نشيداً وطنياً تردده أجيال، ليس صياغة إنشائية لغوية. بل نسيج من خيوط الوجدان. لم يكتب أدب إنساني، ولم يشيد فكر ذو أثر، إلا بإيمان صادق، بتصوف يهب الروح للقضية الوطنية، مندفعا في مجرى الاتجاه التاريخي الصحيح.
يشيّد النهج التربوي والإعلامي، عادة، من تلك الأعمال. فيرسخ الرموز الثقافية التي تتجاوز الحياة في مرحلتها التاريخية. يربي الأجيال عليها، ويعمق بها الشعور القومي والاعتداد الوطني. مقدراً أن الرموز لم ترتفع إلى مكانتها إلا لأنها أسست مصداقيتها بسلوك أخلاقي سندت به ثمارها الفكرية. انتصرت أو هزمت في معارك كبيرة، لكنها لم تسقط في الصغائر. لم تنشغل بما هو أقل من المسائل الكبرى. ولم يكن إبداعها طلباً لرضا أو في سبيل منفعة. فلم تر الإغراء ولا المنفى والعقوبات، بل أبصرت الجوهر: عظمة التصوف في الدفاع عن الوطن. بذلك تجاوز خلودها الاعتراف بها أو التقصير عن فهمها.
نفحص بتلك المعايير أسباب الفراغ الفكري. وهو مسألة تستلزم البحث في مستوى وطني شامل متصل بالمشروع الثقافي والنهج التربوي. لكننا نلاحظ في التفاصيل الممهدة له انفصال السلوك الأخلاقي عن الإعلان الفكري. وتقديم المنفعة الشخصية على مصالح الوطن. كأنما اختبأت الأفاعي في مياه الأيام الراكدة. وعندما اشتعلت الحرب على سورية هرع الذين عاشوا على العسل السوري إلى خزائن الخليج. ولبد آخرون مستشفّين الربح من الأزمة بالقفز إلى الأماكن المناسبة. من يبالي بالمسؤولية في ظروف حرب ودمار؟ من ينتبه إلى خطر الخيبة؟ وأين الأمل في الإصلاح إذا رفرف الطمع في المكاسب!
للصغائر دور كبير في الحرب على القضايا الكبرى. تشبه الصغائر جيوشاً من الحشرات. وقد استخدمت في التاريخ لكسر الخصوم الأقوياء والشخصيات المتماسكة. تميز من أدارها بالمكر والدهاء. ستر بمهارةٍ الهدف السياسي. أجاد تنظيم المجموعات والعلاقات، وإخفاء الأعداء في طيات هواة المنافع، وغطاهم بالراغبين المخلصين في تجديد الحياة، وبالغاضبين على أسلوب الإدارة.
من يفحص المجموعات التي تلمّ هنا وهناك يخمّن أن الفساد الفكري والأخلاقي عنصر مؤسس في الحرب العلنية التي تستأجر المرتزقة بمال الخليج، وفي الحرب الناعمة. في اللحظة التي يتجسد فيها حلف ضد الإرهاب ممتد من روسيا وإيران إلى بغداد ودمشق، لا يتقدم برنامج ثقافي وطني مبدع جامع في سياق هذا الحدث الكبير. بل يندفع الطموح إلى إدارة منظمة ثقافية. مستنداً من ناحية إلى الحرية التي تبيح لكل سوري العمل السياسي والفكري، ومحتمياً من ناحية ثانية بموقف دولي يطلب الإصلاح في سورية، وأيضاً ببطاقة حزبية!
استدعت هذه الملاحظات القائمة الانتخابية التي وزعت عشية انتخابات اتحاد الكتاب. قائمة كاملة تقريباً، توحي بانقلاب يحتل مجلس الاتحاد، ويبقي لما كان جبهة وطنية مقاعد كومبارس. ينشر الالتباس أن في القائمة أشخاصاً مارسوا سابقاً مسؤوليات في اتحاد الكتاب كحزبيين أو ممثلي اتجاهات، وأخذوا كل ما يمكن أخذه، وقالوا كل ما يمكن قوله، وكان بعضهم من قائمة الجبهة الوطنية الغائبة اليوم.
فحص المجموعات والأشخاص بمعيار الرموز الكبرى التي يندمج فيها السلوك بالنهج الوطني، واجب وضرورة. ولو سلبنا نعمة الجهل. كم نتمنى المعارك الانتخابية التي تتنافس فيها برامج المرشحين على ثقة الناخبين! لكن أين التنافس النزيه تحت سقف الثوابت الوطنية؟! يعلن كاتب وهو ينظر في عيون الآخرين: أنا مرشح الدكتورة نجاح العطار لرئاسة الاتحاد! ينفي ذلك مكتب الدكتورة، ويذكّر بأن مجلس الاتحاد، بعد انتخابه، هو الذي يختار رئيس الاتحاد! وهذا مرشح آخر كان عضواً في المكتب التنفيذي ومنع مع مجموعته استنكار جرائم العصابات المسلحة، وانسحب معها مثيراً ضجة إعلامية كأنه «شق» اتحاد الكتاب! الثالث قدم جائزته لكتاب عن الجنس، يحقّر السياسيين ويسخر من الولاء للوطن. والرابع كان من منظمي حملة امرأة من جماعة عبد الحليم خدام.
تستند تلك الباقة إلى التعددية التي سلبت حزب البعث الحق في صياغة قائمة الجبهة الوطنية. تبدو إذاً شرعية. لكن يزيد في الالتباس أن بعض محركيها بعثيون. هؤلاء هم البديل الديمقراطي المقترح لإدارة مؤسسة ثقافية. فهل بدأت الألعاب الغربية والإقليمية لصياغة مؤسسات في ذوقها لا وفق حاجاتنا الوطنية، أم هذا هو مستوى فهمنا التجديد والديمقراطية؟ نجد أنفسنا مرة أخرى أمام معيار لابد من القياس به: ضرورة تلاحم السلوك الأخلاقي بالدفاع عن الدولة السورية، والحذر من توظيف الفساد في المستويات كلها، الاقتصادية والسياسية والثقافية. بهذا المعيار يفترض أن يكون التغيير مناسباً للتضحيات السورية، مؤسساً على تراث الرموز التي تصوفت مفتدية الوطن بروحها ومالها. فيطوى الاندفاع إلى المكاتب التنفيذية ورئاسة المنظمات والمناصب طمعاً في عسلها. وتعتمد الكفاءة وتلاحم السلوك الأخلاقي بالولاء الوطني. هذا المعيار ليس مدخلاً للانقلاب على المؤسسات وتغيير مسارها الوطني ونهب منجزاتها، بل إلى حيوية أدائها لتكون في قامة الواقع الجديد!
وبعد، ليس الفراغ الفكري فقراً فقط في المؤلفات ذات الموضوعات الكبرى. ليس فقط فقراً في القصيدة التي نشعر بأنها نشيدنا، واللوحة التي نؤمن بأنها لوحتنا. بل هو ظمأ الروح إلى الرموز الثقافية التي تخفق في الأزمنة الصعبة وتلهم بنقائها وتصوفها. هذا الغياب موجع! وأشد منه، في زمن حرب ضروس، الاندفاع إلى التجارة بقوت الشعب الصامد أو بالكلمة. كم عدد الذين يتهيبون منصباً يرشحون له، وكم عدد الذين يسعون إليه؟ كم عدد الذين ينعزلون لكتابة بحث فكري ثمنه رمزي، وكم عدد الذين يسعون إلى مكتب يشقّون منه الطريق إلى الثروة؟ يؤسس الناس ثقتهم على «تطابق السلوك والفكر»، وهم يشفقون على المتصوف. فأي نمط من الحياة وضع تلك المعايير؟!
عندما تنتهي الحرب سنتبين أن رموز المقاومة الوطنية السورية تملأ الأفق. وهي التي حمت أحلامنا بتأسيس الحياة على العدالة والنزاهة والصدق. هناك لا يوجد فراغ! الفراغ فقط في التعبير عنها!

Exit mobile version