Site icon صحيفة الوطن

الأم هي الحضن وغيمة الأمان

عندما نكون صغاراً يكون حضنها عالمنا، عندما نكبر قليلاً يكون طرف ثوبها دليلنا، وحين نصبح في عمر السابعة تكون الأمان عند عودتنا من المدرسة، وفي العاشرة هي المرأة نرتشف من كلامها وتصرفاتها ما يبصم شخصيتنا، وفي الثانية عشرة تصبح الصديقة في لحظة والعدو الخصم عند الغضب لكننا لا نستطيع النوم دون ابتسامتها، وفي الرابعة عشرة نهرب منها لنؤكد استقلالنا في محاولات مضحكة، وفي السادسة عشرة نواجهها بأنها جيل ونحن من جيل آخر، ولكن مع الأيام نكتشف فجأة أننا أصبحنا نسخة منها وما كنا نرفضه من توجيهاتها نكرره وما كنا نغفله من حكمتها أو نتجاهله من نصائحها يداهمنا بقوة لأنه يجري في دمنا وفي إيقاع نبضاتنا، وفي الثامنة عشرة لا نفرح بنجاحنا إلا من خلال فرحة عينيها ودمعة زهوها، وفي العشرين قد نودعها لنلتحق ببعثة أو نظن أننا نسيناها إزاء حب العشرين العاصف، وفي الرابعة والعشرين نخجل من قبلتها أو توددها وحرصها ونتأفف لأننا لم نعد أطفالاً يا أمي، وفي الثلاثين ننشغل بأعمالنا وزواجنا وأبنائنا وقد نهاتفها أو نزورها، وفي الخامسة والثلاثين تجمعنا وعائلاتنا الصغيرة فنحاول أن نوازن بين انشغالنا عنها والبر بها، وتداهمنا لحظات الصحو بين وقت وآخر: أريد أمي، أريد أن أعود إلى حضنها وأتذكر أكلاتها الشهية وكلماتها الظريفة، أما ما بعد الأربعين. أمي، أحبك في الصغر والكبر، أنت الحضن والبوصلة وغيمة الأمان السارية فوق رأسي من المهد إلى اللحد.

الأم
منذ اللحظة الأولى في حياتنا تتألم كي يعيش ابنها، تخاف من المخاض لكنها لا تمانع تكرار التجربة، تقول: سيزول الألم فور احتضاني لطفلي، تسهر الليالي تنظر إليه وتتخيله عندما يكبر، تعاني كثيراً من تقبل فكرة ذهابه إلى الحضانة، وتدور في رأسها أفكار تدفعها للاطمئنان عليه بشكل متكرر، يكبر وتعلمه الاعتماد على نفسه بعدها تخشى أن يصبح غير محتاج لها، تدعو له أن يجد عملاً جيداً وعندما يسافر تتألم لغيابه، تتمنى أن ترى ابنتها بالفستان الأبيض لكن لا تستطيع فراقها.

الوظيفة الوهمية
قامت إحدى الشركات بابتكار وظيفة نشرت الإعلان عنها في الصحف والمواقع الالكترونية، سمتها بالـ«الوظيفة الوهمية»، وأجريت المقابلات على الإنترنت عبر الكاميرا، ورغم غرابة اختيار طريقة المقابلة إلا أن الشركة استطاعت جذب عدة أشخاص قاموا بهذه التجربة.
في البداية، صرح صاحب العمل أن الوظيفة ليست مجرد وظيفة عادية، إنما هي -ربما- أهم وظيفة في العالم، واسمها حالياً هو «مدير العمليات»، لكن الحقيقة أكبر بكثير، والمسؤوليات والمتطلبات فيها واسعة جداً، القسم الأول للمتطلبات سيكون «الحركة»، فهذه الوظيفة تتطلب الوقوف على القدمين والانحناء طول الوقت، وتتطلب أيضاً مستوى عالياً من قدرة التحمل، دون وجود فرصة للجلوس هنا أو هناك، ودون فترة «استراحة»، بالإضافة إلى عدم حصول الموظف على فترة الغداء إلا بعد أن ينهي المديرون غداءهم، وكانت الصدمة للراغبين في التوظيف أن الوظيفة تحتاج من 135 ساعة إلى عدد لا محدود من الساعات في الأسبوع (مع العلم أن عدد ساعات الأسبوع 168 ساعة) أي ما يعادل 24 ساعة باليوم وبمقدار 7 أيام في الأسبوع، دون أي إجازة حتى أيام العطل التي تعتبر بمثابة راحة، لكن الأمر في هذه الوظيفة مختلف وأسوأ، وضغط العمل يزيد باستمرار، ويجب تقبل الأمر بكل سعادة وسرور، ومن الشروط أن تكون علاماته ظاهرة على تصرفات الموظف.
في الحقيقة، أكد الجميع –للوهلة الأولى- أن هذا الأمر وحشي وغير قانوني، وكأنها وظيفة أشبه بالخيال، بالإضافة إلى أنها سيئة ومتعبة جداً، فالعمل يتطلب 365 يوماً في السنة، وبالتأكيد هذا غير إنساني وغير منطقي، وليس هناك أي وقت لأخذ قسط من الراحة أو النوم.
وانطلاقاً من هذا، يؤكد صاحب الشركة أن الوظيفة تتطلب مهارة عالية في التفاوض، ومهارة شخصية ممتازة، ويجب على الموظف أن يكون حاصلاً على شهادة في الطب، وشهادة في التمويل، وشهادة في الفنون، وقادراً على العمل في بيئة فوضوية، والتخلي عن حياته الخاصة، بالإضافة إلى القدرة على لعب الكثير من الأدوار، فالمديرون يحتاجون لاهتمام متواصل ودائم، وقد يتطلب الأمر السهر طوال الليل معهم، أما عن الأجر أو الراتب فالوظيفة لن تدفع شيئاً على الإطلاق، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يقوم بهذا مجاناً، ومن المستحيل أن يعمل أحد في هذه الوظيفة.
الحقيقة لم يحظ صاحب الشركة بأي موظف يتحمل هذه الشروط، فالجميع أجمعوا على أن «هذا جنون»، لكن بالمقابل –يقول صاحب الشركة- أن العلاقات المليئة بالمعاني التي تتكون، والشعور الذي يحصل عليه الشخص من مساعدة هؤلاء المديرين لا يمكن قياسه، وهو شعور لا يوصف أبداً، وهل يمكن التصديق أن هناك من يعمل في هذه المهنة؟ والجواب إن مليارات الأشخاص في الواقع يقومون بهذه المهام.
من خلال أحداث هذه المقابلات تراود إلى ذهني سؤال مهم: من يمكن أن يكون هؤلاء المديرون؟ من أي طينة بشرية هم؟ ولم يخطر في بالي أن أكون منهم، لكن الأمر غير المتوقع، وإن أخذنا وقتنا في التفكير يمكن أن نعرف أن المديرين هم الأولاد، ومن يمكن أن يكون سواها «الأم» صاحبة هذه الوظيفة، بالفعل هي تلك المرأة التي لقبّها صاحب الشركة بـ«مدير العمليات» فهي دائماً تحقق كل المتطلبات، وهي الأفضل.
في الواقع، كل ما ذكر في الإعلان هو صحيح ومؤكد، فالأم تسهر كل الليالي من أجل أولادها، ولا تحصل على أي إجازة، موجودة دائماً، وعاطفتها لا يمكن أن تمحى من قلبها وعقلها، فلا تمل العطاء، وحنانها لا يدانيه حنان، والجمال تملكه وحدها، والخير يملأ الحياة بقربها، والفرح تنشره في القلب دون مقابل، لذلك الكلمات لا تكفيها فهي أغلى، هي البيت بأمنه، والدنيا بأسرها، دائماً وأبداً سيكون رجائي لله أن يكون عمرها من عمر السنديان، وأن تظل متجذرة في البيت، فكل سنة وهي مصدر ضحكتنا وفرحتنا، وكل سنة وهي أجمل وأنقى.

Exit mobile version