في الثلاثين من نيسان من كل عام نتذكر الشاعر الكبير نزار قباني في ذكرى رحيله الحزينة، فرحيل العظماء يحمل كل عناصر الحزن، فكيف والراحل كان شاعر المرأة والوطن والإنسانية؟
لقد قرر الربيع أن يكون موسم الولادة والرحيل لشاعرنا الكبير، (21آذار-30 نيسان) فكانت رحلة بين ربيع وربيع، لكنها في كل محطاتها كررت توالياً كل الفصول، فالشتاء كان دمشقياً في شعر نزار، والصيف كان مواسم ثمار من خوخ وعنب وتفاح، والخريف حمل أحزاننا جميعاً، الشخصية والوطنية، ورسمها بالكلمات لتسجل في سفر التاريخ والشعر والنثر، أما ربيع نزار فكان بساتين ورود وأزاهير وقوارير عطر.
جيل كامل، بل أجيال، عاشت مع كلمات نزار التي ليست كالكلمات، كلمات منسوجة بالحرير والبروكار الدمشقي العريق، ومعجونة بالشهد وزهر الرمان والريحان، بل هو الذي صور بيت أسرته في «مادنة الشحم» بقارورة عطر كناية عن احتواء هذا البيت على شجيرات الياسمين وأشجار النانرج والكباد وأصص الريحان والفل والآضاليا وفم السمكة وغيرها من الورود.
وكما اختار الكتابة عن المرأة والحب والعشق الممنوع، كتب أيضاً بحد السكين، كان معنا جميعاً في أحلك الظروف التي مر فيها العرب، وكانت سكينه تفتح جروحنا كي لا يتوقف النزف، وكي نستمر في تذكر الخيبات والآلام، وكان له نصيب من خيباتنا عندما فقد زوجته بلقيس في تفجر إرهابي في بيروت، وكان لبلقيس قصيدة تدمي القلوب.
بلقيس ليست حسناء اغتالتها يد الإرهاب وحسب، بل هي تجسيد لشعب تغتاله الأيدي المجرمة حتى يومنا هذا، وحتى الأيام القادمات!
قد تتساءلون عن سبب اختياري لعنوان هذه الزاوية (أي: نزار سرق الأبجدية) ولكم الحق في طرح الكثير من إشارات استفهام وتعجب.
القصة أن شاعرنا في شعره استطاع أن يطوع الأبجدية ويجعلها تنطق بلسانه كل ما يريد قلبه وعقله أن ينقله إلى الناس، فدخلت كلماته المنسابة كجدول حب وشلال تمرد إلى قلوب الملايين من دون استئذان.
كان صديق العشاق والمحامي الذي يدافع عن النساء وقضية المرأة ونصرتها ضد شيخ القبيلة، والناطق الرسمي باسم مملكة العشق والهوى والهيام، وفي الوقت نفسه كان رفيق الثوار والشعب العربي الذين غدروه وكذبوا عليه وسرقوا اللقمة من فمه، على حين هم يتبخترون في شوارع لندن وباريس، ومن ثم يسلّمون مفاتيح القدس والمدن العربية إلى قطاع الطرق والأفاقين ولصوص الأرض والتاريخ وقتلة الأطفال!
نزار سرق الأبجدية من كل الكتّاب والشعراء العرب الذين أتوا بعده، فلا هم استطاعوا مجاراته في تلوين الأبجدية لتصبح رسالة عاشق، أو سكين مقهور، ولا هم استطاعوا خلق لغة جديدة بعيدة عن لغته وأبجديته وأفكاره.
السرقة هنا ليست جريمة يعاقب عليها القانون، ولا هي فعل مدان ومستنكر، إنها أجمل سرقة عرفها الأدب والشعر والإبداع، ونتمنى أن يبرع آخرون في سرقة الأبجدية وتكوين قصائد وقصصٍ تشبه ما أنجزه نزار في حياته الربيعية المزهرة والمثمرة بكل ما هو جميل ورائع.
لا أتعدى على شعراء اليوم، لكنني أحاول أن أنصف شاعرنا الذي اختصر كل اللغات والعبارات والقصص.. وليكن الختام مع كلام خطته ريشة نزار المبدعة والرشيقة:
كنت أتمنى أن تكوني لي..
في عصر لا يضطهد الورد، ولا الشعر، ولا الناي، ولا أنوثة النساء..
ولكننا بكل أسف وصلنا متأخرين.. وبحثنا عن وردة الحب
في عصر لا يعرف ما هو الحب!!