Site icon صحيفة الوطن

مسلسل «خريف العشاق» يحكي ثلاثين عاماً لسورية القرن العشرين … العشاق يقعون في فخاخ الفساد والعاشقات يخسرن ربيع الحب

متى كان الزمن الجميل ربيعاً إذاً؟ وها هي سيرة سورية تمتد أمامنا منذ أواخر الستينيات حتى أواخر القرن العشرين رثاء، يكاد يقتصر على الجانب السلبي.
ولعل الإيجابي كجواب كان بداية المرحلة، وحركة المجتمع باتجاه التعليم والتآخي والتحرر والثقافة، وانتصار حرب تشرين التحريرية عام 1973، مرحلة كان وعي المؤلفة شاهداً عليها، لكنها نجحت بإقصاء نفسها عن المشهد.

مرثية سردية

إنها شعارات النصر، والقوى السياسية في اليمين واليسار: من أخطأ الفراسة، أو أساء الترجمة وقعت في قبضة ازدادت تسلطاً وفساداً، وارخت ظلالها على تطورات المسلسل، لينحرف الزمن متوغلاً في سلبيات هيمنة القطب الواحد، وانعكاسات كامب ديفيد والإخوان المسلمين والحروب العربية المحيطة.

والسؤال الثاني: هل يحتمل ربيع العشاق وهو يتحول إلى خريف، كل هذه الأحداث والممارسات الفاسدة، والإيديولوجيات المنحرفة؟ والجواب ربما لم يكن ليفعل لولا أن المؤلفة تعمل بمبدأ، آرثر ميلر: «تحويل الحقائق الاجتماعية إلى حقائق شخصية، والمواقف إلى علاقات عامة».

حولت ديانا جبور سيرتها العامة المؤجلة، إلى حياة شخصية لعشاقها برشاقة وواقعية نقدية حافظت على الخصوصية الفردية، وهي تضرب جذورها في سياق الحركة الاجتماعية العامة، بينما يتحرك الربيع إلى خريف، لا يزال الشرفاء فيه بارقة الأمل الوحيدة.

هكذا جاء السرد الروائي الذي أوجزته المؤلفة في 30 حلقة: مكثفة الزمن والحدث والدلالة، سيرة متكاملة مسؤولة الغاية، واضحة الهدف، وإلا لاستحق أن يقع في المفهوم التجاري في ثلاثة أجزاء و100 حلقة على الأقل.

وكان أن أعطت الغاية المصوبة بإحكام، من دون تشتت فني، وتلك القوة والدلالات الأمينة على سرد الأحداث وتشكل الشخصيات، بانوراما وطنية حافظت على هوية المراحل والأحداث التي عصفت بمصائر أربعة أزواج من العشاق.

ينطلق الحدث الروائي، مكاناً من مدينة اللاذقية، التي تميزت باستقبال ربيع التحرر الفكري والحزبي والاجتماعي بترحاب، وبالتآخي الطائفي، والوجود الراقي المتحضر للطائفة المسيحية الكريمة، والتي يرصد المسلسل أبرز التحولات في حياتها حتى النزوع إلى الهجرة.. ويبدأ بزواج خطيفة بين ثلاث شابات، وثلاثة شبان من طائفتين مختلفتين، محتفياً بذلك الانتصار لمشيئة الهوى، والغبطة لتحقيق انعتاق الذات، كسلوك تقدمي خاصة بين حامله من جيل الشباب.

لكن ربيع الزمن الجميل، لم يكن سوى سحب تحررية عابرة، يجيد قلم جبور، ومشهد جود سعيد الاستهلال بانعكاساتها في العلاقات الاجتماعية والثقافية وحتى الأزياء، وهي تهيئ الواقع للتغلب على التقاليد الموروثة، والحب العابر للطوائف، وتحرر المرأة، لكنه يكرس تحليله لجدلية تحولها المطرد إلى خريف في نهاية العشرين، وقبيل شتاء، قارس، ما زال عاصفاً في سورية والمنطقة.

واقعية نقدية

«هذا الماضي الباقي فينا كندوب» كما يقول ممدوح عدوان، يجعل صدقية سيناريو «خريف العشاق» ساطعة من داخل مواجع شخصياته أي عشاقه، وها هو المخرج جود سعيد يحصل على عمل محكم الأحداث، دلالي الحوار، كثيف التغيرات المنطقية، يغطي مرحلة من الحياة السورية، متجاوزاً تخبط سيناريو مسلسله الأول «أحمر»، وبهذه العناصر يشكل بيئته الدرامية، ويطورها على مدى ثلاثين حلقة، نخشى أن يغري نجاحها باستنساخ مسلسلات جديدة كما حصل في مسلسلات البيئة الشامية.

ويعالج جود سعيد أسلوبه الإخراجي بتقنية مخلصة لعين المؤلفة، لكنها ليست روتينية التحقيق مشهدياً، ويختار بالتوازي مع سيطرة جبور الفكرية على وقائع المسلسل، براعة التوازن المشهدي والفكري معاً، فلا يجد أفضل من أسلوب الواقعية النقدية.

هكذا ينجح أسلوب جود سعيد في جدل مصائر الشخصيات من عناصر البيئة المتنقلة في مؤسسات الحياة الوطنية: الإدارية والثقافية والإعلامية والعسكرية والأمنية، والتي رصدت لها المؤلفة هوامش شاهدة على تسلط مترجمي أحكامها، والمستفيدين من استثمارها، وهي تحول الربيع إلى خريف مؤسساتي وإنساني.

لقد كانت بؤرة المؤلفة، في خريف العشاق، مفتاح سيمفونية الرثاء الذي عزفته كاميرا جود سعيد، وهو يقتنص غنى عناصره السينمائية إلى حقل الدراما التلفزيونية، التي عادة ما تكون فقيرة ومسطحة، ما جعل إطاره المشهدي يتسع أفقياً للعام وعميقاً للشخصي، محافظاً على نقدية السرد كأساس لتناول مرثية الماضي، ومستعيناً بموسيقا طاهر مامللي المعبرة وهي تحافظ على الإيقاع الحكائي والدخول في الأسى النفسي للشخصيات، وعمق الدلالات في المفاصل الزمنية للحدث.

تمرد مسؤول

ولا يمكننا اعتبار الواقعية النقدية لخريف العشاق، إلا تمرداً مسؤولاً على السيرة السياسية ثلاثين عاماً، من الماضي ومحاولة تشكيك بمفاهيم قوالب عالمها الأنطولوجي، ومحاسبتها لإفساح الظهور لوعي جديد هو مصدر كل تغيير في الفكر والفن والسياسة.

لهذا نشاهد في سياق التحول الاجتماعي أن حرب تشرين التحررية، تتوج الربيع في حياة عشاق المسلسل، ويخرج العسكريون منها بأوسمة شرف وجراح وإعاقات جسدية ومناصب رفيعة، ويكافأ العميد سعيد بترفيع وسماعة بعدما فقد سمعه وبمنصب أمني رفيع، والعميد هلال بمنصب عسكري مهم في حماة، أما العاشقان المدنيان فيتجه بدر إلى الدراسات العليا في لندن، والشاعر والإعلامي الفلسطيني مشعل فإنه ينجح في الحياة الثقافية.

وفي سياق المحاسبة، فإننا نجد العشاق الرجال يسقطون في فخاخ الفساد وقوانين الطوارئ، وقد حملت المؤلفة سيطرة رجال الأمن، باسم الخال ولمدة عقود من دون تغيير مسؤولية الظلم والفساد وظهور التشبيح، وانعكاساتها على الحياة الشخصية والعامة.

وقد أدى دور الخال النجم الكبير أيمن زيدان ببراعة سيميائية ظاهرة لداخلية نفسية شريرة، ليترك بصمة خلاقة على صدقية تحكمه في مصائر السيرة النقدية للمسلسل، لكن انعكاس التحولات الكبرى سرعان ما تتزامن مع المعاناة والمآسي في المصائر الفردية، وها هو العميد سعيد، الذي جسده البارع أحمد الأحمد في أفضل ظهور درامي له، يكافأ بالعمل الديبلوماسي ليتاجر بالذهب شراكة مع الخال، الذي يغتصب زوجته في غيابه التي خسرت سلام عشقها وجذوة عاطفتها الزوجية، ثم يهدد ابنته بالفضيحة بعد اختلافه المالي مع سعيد، الذي ينقلب عليه فاضحاً أعماله لطاقم وطني جديد.

أما العميد هلال البطل النزيه في الحرب والحياة فيجسد دوره الفنان القدير حسين عباس، فإنه يسجن من دون محاكمة لمدة عقدين من الزمن، بعدما أخطأ الفراسة في أحداث حماة، متورطاً بين اليسار والإخوان المسلمين لولا أن التغييرات الأمنية الجديدة تنصفه كبطل وطني ظلمته الأحداث.

ولا يخرج العشاق المدنيون عن دائرة التحولات، فالأستاذ بدر يؤديه النجم محمد الأحمد محققاً تميزاً بتجسيد معاناة نفسية وعائلية ومهنية متخبطة، فإنه يفشل في تحقيق ذاته فاقداً السيطرة على مصيره حتى الضياع في ساحة الحرب الكويتية، نتيجة لضغوط المؤسسات التعليمية والنقابية التي ساقت له التهم الأخلاقية والوطنية والمهنية معاً.

وتؤدي الضغوط ذاتها، إلى خروج الشاعر والإعلامي الفلسطيني مشعل يؤديه النجم لجين إسماعيل بحيوية حضوره المعهودة، من سورية إلى تناقضات الفصائل الفلسطينية وتشتت أقدارها، واستلاب بعض قادتها إلى العبث والترف، ويكاد يفقد عشقه وقضيته معاً لولا نجاح زوجته ترف الفقي، التي أصيبت بالسرطان بالمحافظة على خيط الحب الرفيع.

ويرصد المسلسل معاناة المرأة في ظل التحولات الخريفية مساحة واسعة من الأحداث تكاد تفوق حضور الرجال. وكان أن حظيت عاشقات «خريف العشاق» على أدوار رسمتها المؤلفة بدقة أصيلة الحضور، حقيقية التأثر والتأثير، لنشاهد شخصيات نسائية فاعلة ومحرضة، في أحداث زمنها، مشتعلة النوازع الداخلية التي تميل إلى الإيجابي أكثر من السلبي، وقد صورتها مشهدية جود سعيد متعددة الوجوه الجمالية في العائلة والحب والمهنة، لتتألق صفاء سلطان في ألمع أداء لها كزوجة صلبة وصابرة للعميد السجين هلال، وترف الفقي في تكوين داخلي وخارجي لعمق أحاسيس المرأة وإرادتها وحكمتها، وحلا رجب في تألق إبداعها لدور نفسي صعب يجسد تأرجح المرأة بين التحرر وتضخم الذات، وعلا سعيد في تجسيد داخلي شفاف يعكس الانكسار الشخصي والانسحاق بين رحى الزوج الفاسد- العميد سعيد- ورجل الأمن الخال، خاصة بعدما انعكس الفساد على حياة أفراد عائلتها.. وأخيها المتورط في الفساد.

وكان لابد في إطار التمرد والواقعية النقدية، العاملة على هدم قوالب الماضي من الإشارة إلى بروز قوالب جديدة للتغيير على المستوى الوطني، وقد تمثل هذا ببروز شخصيات عسكرية وأمنية جديدة ونظيفة أعادت قراءة الماضي، تزامناً مع إنهاء الشخصيات الأمنية الفاسدة التي ســيطرت عقــوداً، ربما من الحرس القديم، كان الخال المنتحر بعد انفضاح فساده وإقالته من عمله، رمزها في المسلسل، وربما بنت المؤلفة على انتحار كل من محمود الزعبي، وغازي كنعان واقعياً.

عمل العمر

وهو العمل الذي يطلق بصمة جود سعيد في عالم الدراما التلفزيونية، ويخدم نزوعه البصري إلى التمرد، ما جعله يقدم حلولاً مشهدية مبتكرة لا تنسى، مثل مشهد اغتصاب الخال لزوجة سعيد، ومشهد رفع العلم اليوناني على نافذة عائلة مسيحية حماية لها من هجوم الشبيحة وهو من أقسى وأوجع المشاهد في الدراما السورية.

ويحرر جود سعيد في خريف العشاق روتينية القوالب الدرامية موزعاً نجاحه على كل طواقم العاملين معه في المسلسل ليحصل كل المشاركين على فرص ذهبية باقية في سجل عملهم الدرامي بتوقيع جود سعيد.

كذلك حققت ديانا جبور عمل العمر الذي رصدت له سنوات من الجهد الفكري، وأقول هذا لأنه عمل صعب التكرار.

Exit mobile version