Site icon صحيفة الوطن

الحياة في الماضي موت

قد تكون ثقافتنا العربية من أغنى الثقافات في تراثها المعرفي والأدبي والشعري والفلسفي، والإفادة من هذا التراث أمر مهم للغاية، وعلينا أن نستثمره بكل تفاصيله لبناء حياة معرفية وثقافية مختلفة في المستقبل، لكن المفارقة الكبرى أن هذا الغنى تحوّل إلى معضلة كبرى في ثقافتنا، فاندفعت الأمة إلى الحياة في الماضي، والماضي السحيق بكل ما فيه من تناقضات وتناحرات وسلبيات تؤدي إلى مزيد من التردي.. وقد عمل العلماء العرب وكذلك المستشرقون على نشر التراث العربي وتحقيقه وتقديمه بشكل علمي وفي كل الميادين العلمية والطبية والأدبية والدينية والفقهية، من الحاوي إلى ابن عربي إلى علم الساعات والحيل، إلى علم الفلك والشعر والخطب والنثر، ووصولاً إلى كتب الفقه والتفسير على مختلف المذاهب الإسلامية، بتعدد الفرق المتشعبة، وصارت الصورة واضحة عند العربي اليوم للخريطة الفكرية العربية، ولكن، وبمسوّغ وغير مسوّغ أسبغ طائفة من الباحثين والمنتفعين صفات القداسة على التراث، وذلك بذريعة لغة القرآن الكريم والدين، وهي ذريعة مقبولة وتعطي النص المقدس قداسته، ولكن الباحثين تجاوزوا الحدّ، وأسبغوا صفات القداسة على كل ما يتعلق بالتراث، أي بالماضي، فصار الشعر مقدساً، وأي نيل منه أو شك فيه هو بالضرورة شك باللغة، وبالتالي شك بالنص ا لقرآني المقدس وما يتعلق به..!
وصار الرجال مقدسين، ولا يجوز أي انتقاد أو انتقاص لهم أو لعلمهم ولو كان هذا النقد علمياً! أنا لست مع نفي الفضيلة عن السابقين المصنفين، ولكنني أذهب إلى بشريتهم، وإلى أنهم يصيبون ويخطئون، وهنا انقسم المعاصرون إلى خندقين أحدهما مدافع حتى عن الغلط، وثانيهما رافض حتى للصواب الذي يحسن العمل به، وما دار في كتب وأحاديث عن أبي هريرة والكتب الصحاح أدلّ دليل على هذه النظرة الضيقة التي لم تدفع للاستفادة من هذا التراث الكبير، الذي يمكن أن نأخذ منه وأن نطرح منه.
أصرّ الباحثون على أن يحيوا في التراث، وأن يدفعوا الناس للحياة في التراث بصورة قسرية، فبدل أن نستفيد من التراث لننطلق، جعلنا التراث غرفة سرية مغلقة لا نفتح نافذة عليها أو فيها أو بها! فما قاله نحوي لا يجوز الخروج عنه، ونخطئ أي قول بحجة أنه لم يرد عن العرب، وننسى أننا عرب، ونقبل قول ابن كثير على ما فيه، وقول الزمخشري، وقول الطبري، وقول القرطبي، ونتغافل عن الدوافع والانتماء الفكري كالانتماء للمتكلمين، والمعتزلة والأشاعرة وسوى ذلك، وننسى أن هؤلاء الأجلاء هم أبناء أزمانهم، ولهم اجتهاداتهم التي تناسب عصرهم وانتماءهم، ومن حقنا نحن أن نجتهد، وأن نرفض ونضيف، وذلك ليس انتقاصاً من هذا العلَم أو ذاك أو من علمه، بل هو طبيعة الكون والسيرورة، بل أذهب أكثر من ذلك، وبأننا عندما نقوم بالشرح والإضافة والنقد، فإنما نخدم هذا التراث، ونخدم هؤلاء العلماء أيضاً، وإلا بماذا نفسر حركة تحقيق المخطوطات وإصدارها ودراستها الدراسة الوافية الجيدة العلمية؟! وكيف أقبل من دارس أن ينتقد منهج أحد الأجلاء، وتقويم هذا المنهج، وأرفضه من باحث آخر؟! الذي لاشك فيه أن ثقافتنا غنية، ومن المفترض أن تمشي بنا هذه الثقافة إلى آفاق بعيدة، وأن تحقق لنا مدى أكثر اتساعاً من أي ثقافة أخرى، فهي غنية لغة وفقهاً وتفسيراً وأدباً وكلاماً و فلسفة، ولا يقتصر تفوقها على جانب دون آخر، وقد فهم كثيرون من دعاة التراث ومن دعاة الحداثة هذه الحقيقة واضحة جلية، فعملوا عليها وتناحروا لأجلها، فأصدروا أفضل الدراسات والكتب التي كانت بمحصلتها تخدم التراث واللغة، سواء كانت معه ضد أو مع بالكل أو بالجزء، ولكن شرذمة من الدارسين الجهلة، ضيفي الأفق، أرادوا للأمة أمراً آخر، أرادوا لها أن تعيش في الماضي، وأن تجتر ما جاء عن القدامى، وكأنه أمر مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! وفي الوقت نفسه لا قيمة لأي اجتهاد وحديث مهما كان عظيماً وجيداً لأنه لم يرد عن القدامى!
وهذا أمر خطير للغاية، إذ أعطى المسوغات كاملة للخصوم بأن يحكموا على الأمة بأنها أمة ماضوية، وبأن أفكارها هي التي توارثتها، وكل ذلك أسهم في إسباغ صفة التعصب والتطرف على ما تنتجه هذه الأمة، خاصة إن أخذنا بالحسبان ذلك الخلاف الكبير، الذي صار مع الزمن كبيراً، بين المذاهب والأفكار والمناطق والطوائف، فما كان بسيطاً يحاكم الآن على أنه جوهري! وبذلك ضاعت مهمة التراث ونشره من مجرد كنوز تكشف إسهامنا الحضاري الراقي، إلى صومعات نحيا بها ولا نغادرها! والويل الويل لمن أراد أن يتنفس هواء الحياة الجديدة!

Exit mobile version