Site icon صحيفة الوطن

الله مقدّر الأسعار والمسعّر!!

يدور الإنسان في فهم الأشياء كما يشاء، وأحياناً يخضع لقراءة طبقة من رجال العلم المتعمقين في مجال ما، ومن هنا كانت طبقة الكهنوت والعلماء، وعلماء السلطان الذين يقومون بوضع النصوص التي تخدم السلطان في السيطرة على الناس ومقدراتهم، وكأن هذه الطبقة تم اختراعها لإيجاد الذرائع القادرة على التحكم بالبشر من خلال قراءة نص قد يكون مقدساً، وقد لا يكون، قد يكون صحيحاً, قد لا يكون، والقيام بسلخه من ظروفه وشروطه وحالته لإسباغ حالة من التعميم عليه، وهؤلاء وأنفسهم يتناسون أن من هم أعلم منهم أوقفوا العمل بنص مقدس لأنه يتنافى مع الواقع، كما فعل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه عندما أوقف العمل بحد من حدود الله وهو حدّ السرقة في عام المجاعة والظريف أن العلماء الأجلاء أبقوا هذا الحد على الفقراء والبسطاء فقط، ويمثلون على الناس والإله بتطبيقه!
أما أطرف ما يتم تداوله اليوم فهو قراءة عجيبة لأحد الدعاة المسلمين حول الأسعار والتسعير، وغلاء الأسعار، وكأنه يقول لمتابعيه: سدّوا حلوقكم ولا تعترضوا على غلاء الأسعار، لأن غلاء الأسعار هو أمر إلهي، فالله هو المسعّر، هو الذي يرفع الأسعار ويخفضها!! وبذلك يتمكن هذا الشيخ وأمثاله من إقناع كثير من الناس بأن الله هو الذي يرفع الأسعار ويخفضها، وربما بأمر منه يوضع جدول الرواتب، وبأمر منه يصل دخل الفرد السنوي إلى قروش في بلد مثل بلداننا، ودخل آخر بالمليارات في البلد نفسه، وسبق أن قرأنا وعرفنا أن السادة العلماء هم الذين أقنعوا الناس بأن الله خلقهم درجات، وكأن الله هو الذي قرر أن يكون فلان فقيراً وهو يعمل دوماً، وفلان غنياً وهو لص دوماً!!
حاشا لله، على الرغم من استناد هؤلاء إلى نصوص في القرآن، والحديث في قضايا الرزق والسعي، ويتجاهل هؤلاء السادة مفهوم العمل، ومعنى ما يقولون في شروطه، ويطبقون ما جاء في القرآن ليسندوا تافهاً حاقداً لصاً متسولاً لاعقاً للأحذية صار من الأغنياء، بل ويقفون هم على بابه يمتدحونه!!
يقولون لك: الله رزقه! وينسون أو يتناسون كل النصوص المقدسة والأحاديث التي تبعد الله عن الظلم، فالسارق والقاتل والمعتدي وأشياء كثيرة أقنعوا العامة بأن ذلك قدر من الله، الله كتب عليه السعادة والشقاء.. ولو كان ذلك صحيحاً فليس على الناس حساب، وكله جاء ليسوّغ مفهوماً دينياً سياسياً. استمر من الأمويين إلى جورج بوش الابن بأن الحاكم يحكم باسم الله في الأرض والمجال لا يتسع لسرد الأمثلة والشواهد الشعرية التي يدبجها القائلون للتأكيد بأن الحاكم هو الناطق باسم الله (حُمّلت أمراً) وبناها جرير الشاعر على المجهول، فالخليفة لا يريد الخلافة لكن انصاع لمن حمّله إياها وهو الله طبعاً، والله هو الذي حمّل الفقير قشاطاً ليجرّ عربة في سوق الهال!
الدنيا هكذا.. لكن لا تحاولوا أن تفسروا ما تشاؤون لمصالحكم، لتشكلوا طبقة من رجال الدين المنتفعين المنتفخين حقاً وجيباً في الوقت الذي تدعون فيه الناس إلى الزهد والتقشف! وما من شيخ لم يقدم ضيافة في العيد من أفخر ما يكون، إنه كرجال الدولة والسلطة ومن المصادر نفسها، وهو يدعو الناس إلى الصبر، فهلّا صبر صبرهم، ولبس للباسهم، وأكل خبزهم؟! أرأيتم رجل دين لا يعتني بطقمه وكرافته وجبته وعمامته؟ هل تعلمون تكلفة غسل العمامة وإعادة ترتيبها، خاصة عند المشايخ الطارئين؟!
ونعود إلى سبب الحديث: المسعّر هو الله، هو حديث قد يأخذ به بعضهم وقد لا يأخذ، لكن تفسيره بهذه الطريقة يقلل من قيمته ويجعل الله مسؤولاً عن البورصة يومياً، وكل ما يصدر نقبل به! وبصورة أخرى يصبح المسؤول إلهاً يصدر أسعاره بوحي من الله مع أن الحديث ليس ذلك!
وبما أنني لست شيخاً ،فلن أعود إلى كتب الحديث وهي لدي موجودة، بل أعود إلى لسان العرب معجم ابن منظور الذي يقول بالحرف «وفي الحديث أنه قيل للنبي، صلى الله عليه وسلم، سعّر لنا، فقال: إن الله هو المسعّر، أي هو الذي يرخص الأشياء ويغليها، فلا اعتراض لأحد عليه، ولذلك لا يجوز لأحد التسعير، والتسعير تقدير السعر» وفي السياق يعني أن النبي وهو السلطة السياسية والدينية لم يتدخل في التسعير، وفي الحديث يرخص الأشياء ولم يرد الأسعار، ولو كانت الأسعار لكان الكلام في سياق آخر، أما ورود الأشياء، فهذا يعني أن الله هو الذي قدّر غلاء أشياء ورخص أخرى، فالذهب والأرض وما شابه بقدر من الله هي غالية الثمن والسعر، لأنها تحافظ على قيمتها وثباتها، أما الأشياء الطارئة التي تنتهي وتفسد، ليست ذات قيمة، فقدر الله أن تكون رخيصة السعر، لأنها تفسد..
وفي السياق نحن أمام أمة وليدة جديدة ليس لديها القوانين والأنظمة، لذلك جاء هؤلاء الصحابة إلى النبي ليقدر لهم الأشياء ويسعّرها لهم، وإذا ما ربطنا ذلك بآية المداينة، وهي أطول آية في القرآن فإننا سنعرف أن تنظيم حياة الناس والمجتمع والأشخاص هو الدافع لتنظيم التعاملات المادية في الآية وفي الحديث، ولا يحق لأحد المشايخ اليوم أن يستقدم الحديث ليسد أفواه الناس إذا ما اعترضوا على قرارات برفع أسعار الحاجات اليومية التي يستهلكها الإنسان، والتي بمقتضى الحال هي أمور رخيصة أو يجب أن تكون رخيصة، لأن الله قرّر رخصها، ولا يفهم من الحديث أن لائحة الأسعار هي قدر إلهي يتنزل كل يوم على المسؤول ليحدد الأسعار!!
إن الاستعانة بهذه النصوص، وفي ظروف محددة، ليست إلا تحايلاً على النص لخدمة المحاكم، ودفع الناس للانصياع إلى ما يتم تقريره من أسعار، ولكن الله لم يقرر أن يرفع المرتبات والتعويضات ليعيش الناس بكرامة!!
أما خلق الإنسان خليفة وعلى صورته؟!
ما رأي المشايخ الذين يتجهزون عند كل عطسة لتسويغ ذلك باسم الله؟!
أما قتل الحلاج، وقفعت يدا المقفع، وعوقب بشار بن برد بأمر من الله؟!
أما عوقب أحمد بن حنبل باسم الله؟ أما تعرض الغوغاء للشافعي باسم الله؟!
القائمة تطول وتطول..
فليهنأ اللصوص والدنيئون ومحدثو النعمة، العلماء ورجال الدين جاهزون لتطويبهم باسم الله علينا، وفي مرحلة سيصبحون مفكرين وفلاسفة، فالله ما نح العلم لمن يشاء!!
سنتقي الله لأننا نؤمن به ونحبه، ولن أطلب منكم، فلن تفعلوا..

Exit mobile version