Site icon صحيفة الوطن

في الشعر صورة وحالة مستحيلة … «وهبتنيها» تدّعي أنها ليست شاعرة وتنظم عقدها

عنوان مباغت (وهبتنيها) يرد أمامك لشاعرة تحمل اسماً عربياً قبلياً ميسم الجلود الشمري، وأول شيء تقابلك به ميسم: لست شاعرة! إن كنت حقاً لا تنتمين إلى الشعر، ولا ترين نفسك شاعرة لم أصدرت مجموعة؟! وأول قصيدة في المجموعة، أو قل أول نص يحمل عنوان لست شاعرة!

وهذا البدء هو نوع من التحفيز في داخل المجموعة لمعرفة النصوص، ثم ليقول القارئ: لا أنت شاعرة، وما كتبته من صور وأخيلة وحالات هو شعر، وشعر جميل!

الدلالة على المصدر

تلح الشاعرة في كلمة غلافها، وفي إهدائها، وفي ثنايا نصوصها على الإشارة إلى المنجم الذي اكتنزت من خلاله الحكاية والحب والشعر، وربما الشخصية الخاصة، فالجدة فاطمة والأم منى، لكلتيهما تعيد الفضل، وتهدي مجموعتها مظهرة دورهما في إشعال البخور في الروح والكلمة، وتحديد معالم الطريق أمام مفتونة، ربما دماً وشخصاً.

أنا لست شاعرة
إلا أن الرفاق يزعمون
فهم بحديثي عن اسمك يستمتعون
وأنت تعلم أن بيني وبين الغزل
سبعين باباً وسبع حراب
وبعض الحذر
وشيئاً مما يوعدون

النص الذي تنفي فيه ميسم عن نفسها الشاعرية طويل! وهذا مطلعه، ثمة دافع وراء نشر هذه النصوص، فأمام الأصدقاء، وأمام الحب، وأمام الحذر، وأمام الفضول، وقد يكون مجمل الأسباب وراء قول الشعر ونشره عادة، وهذا يعيدنا إلى القصيدة الأكثر رقة في هذا الباب نزار قباني يقول:

لا تسألوني ما اسمه حبيبي
أخشى عليكم ضوعة الطيوب
والله لو بحت بأي حرف
تكدس الليلك في الدروب

فهل نحتاج دوماً إلى من يسألنا عن الحب والمحبوب لنقول شعراً، ونصرّ على عدم البوح باسم الحبيب؟!
ولعل القصيدة الأكثر قرباً من أجواء قصيدة لست شاعرة، هي القصيدة المغناة (حبيبتي من تكون؟)

الرفاق حائرون
يتساءلون
في جنون
حبيبتي أنا من تكون؟
أخفي هواك عن العيون
فكيف مني يعرفون؟
الكلمة الشاعرة

تنتمي ميسم الجلود إلى عالم السرد كما تقول وتتابع دراستها، ولكن قراءة روايتها السردية بين بغداد ودمشق تظهر أن عالم السرد لديها هو عالم شاعري، يتأثر بالكلمة الشاعرة التي صارت لازمة من لوازم الكتابة عندها (الدرب معك نجاة ودونك هلاك) (يصلّون تجليك الأعظم في أوردتي)
وهو ما يطلق عليه في النقد السرد الشعري، أو القصّ الشعري، وهذه اللغة الرهيفة ملازمة لشعر الشاعرة ونثرها، وهي خصيصة جميلة قد لا يجيدها شعراء عندما يستخدمون لغة غير شاعرية.

ليتني النعاس في عينيك
أثاقل أجفانك الحلوة
وأشاغب فوقها أمنياتي وحكاياتي
ليتني نعاسك الشهي
أحجب عنك رؤيتهن
ورؤيتهم
وصديقك أيضاً

تنفي الشاعرة عن نفسها صفة الشاعرية، وتنشر ديواناً عليه تصنيف الشعر، وهذا النشر يتيح لنا أن نتحدث معها بصفتها الشعرية، والنصوص الواردة في هذه المجموعة فيها الإبداع والصورة والوجدان ودفق العاطفة كما في النصوص التي جمعتها، وفيها حب المرأة بصورة جميلة، وهي تتمنى أن تكون النعاس لمن تحب لتمنعه من رؤية الأخريات، ولتمنعه من رؤية صديقه أيضاً، وهذا الإحساس هو درجة عالية من الحب عند المرأة، لم تخف ميسم شعورها به، فقدمت بذلك حالات وجدانية طريفة ومستغربة، لكنها كانت بصورة لطيفة ووجدان شعوري وشعري عال، وإن اختارت ألا تكون على نهج الشعر في صناعته.

إحساس المرأة

على الرغم من محاولات إظهار القوة، إلا أن الشاعرة في لحظات محددة تعود إلى المرأة التي تبحث عن سند في زمن رديء، عن اختفاء وراء حبال صوتية تنوب عنها في الألم والصراخ، وها هي تبحث عمن تحب، تخاطبه كما تشاء، وتكون امرأة باحثة عن الحب في كل لحظة من لحظاتها، فالصوت مع الاسم، والوتد القوة التي تستند إليها، والحبيب هو القوة التي تجابه به زمانها:

صوتك في اسمي
وتد العمر عليه أستند
وأبقى
وأحارب به سيف الزمان الصدئ

نصوص وجدانية مطلقة تقدمها الشاعرة في هذه المجموعة التي جمعت فيها ما اجتمع بين يديها دون تنخّل أو اختيار، سواء كان هذا الاختيار قائماً على التفضيل الذاتي أم الموضوعي، فالمجموعة كما هو واضح في عنوانها وصفحاتها ونصوصها (وهبتنيها) إلا أن الشاعرة ضمت إليها نصاً وطنياً جاء مفرداً ومتميزاً في النصوص، ويحمل مزجاً لطيفاً بين الذات والوطن.

يا حجارة الطريق
كيف هان عليك عناق أقمارنا؟
أما خشيت علينا عتمة
الحقد والزيف
وأنهار الشهب راقصة بدمائنا مكتحلة؟!

والحميمية المنبعثة في هذا النص تجعله أقرب إلى الروح والوجدانية التي تتسم به المجموعة، وتجعله ضمن نسيجها العام.

مفردات الشعر

تركز الشاعرة في نصوصها على مفردات الحياة، لتعطي المجموعة صورة متكاملة عن حياة جيل تنتمي إليه، من السيلفي إلى الرسالة النصية، إلى حبيبي المحتال، وهي موضوعات آنية طازجة لم تعد حكراً على الحياة العامة، وليست خاصة بالشاعر الرجل، ويلفت في هذه المجموعة اعتماد الشاعرة على الكلمات القائمة على الحسّي والمشترك بين المتحابين، من صوت ونعاس وأشياء أخرى كثيرة:

فزعت إليك
وارتديت صوتك وشاحاً
من لون لحمي
نسجته عرقاً عرقاً
أحيكه للعمر كل العمر
الاعتداد لم يمنعها من أن تهرع إليه، من أن تستنجد به، من أن تصوغه هي للعمر كل العمر..

وللمحكي مساحة نافرة

وكان غريباً أن تجنح الشاعرة إلى خيار إثبات نص من نصوصها المحكية في هذه المجموعة المتآلفة، ولم أدر السبب، سوى المتعلق بأن هذه المجموعة هي الأولى للشاعرة، وعندما همّت بطباعتها قامت تجمع ما تحت يديها، وعزّ عليها أن تحذف نصاً أو قسماً، أو أن تستبعد نصاً من النصوص، مع أن المجموعة بتمامها لو استبعدت الشاعرة بعض نصوصها تمثل حالة وجدانية وشعورية عالية المستوى فناً ومضموناً، لكنها شاءت من باب الأنانية والحب للنص أن تثبت هذا النص المحكي، وأثبتته في وسط المجموعة، ولم يأت لاحقاً أو ملحقاً، ومن هنا كان نافراً، لأنه شكل نتوءاً مفاجئاً وسط هذه النصوص الوجدانية.

مجموعة الشاعرة ميسم الجلود الشمري هي مجموعة من النصوص الوجدانية العميقة، والمتأثرة بالوسط الاجتماعي والثقافي، والفكري، تمثل أبناء جيلها وبنات جيلها، وتعطي صورة عن الفكر الشبابي الذي تمثله، هي لا تنتمي للشعر بمفهوم التجنيس، وإن كانت كلمة الغلاف قد أشارت إلى أنه شعر، فأخذت المجموعة من براعة الصورة الشاعرة وقدرتها على التسلل إلى وجدان القارئ، وهي في الوقت نفسه أخذت من سلاسة النثر وحريته في التنقل والتعبير.

حبذا لو كانت هذه المجموعة وقفة أولى للشاعرة تقرر من البداية انحيازها إلى جنس أدبي لتخلص له في القصّ أو الشعر، وهذه المجموعة تمثل أول غيث إبداع الشاعرة الوجداني والشعر، وبانتظار أن ينهمر هذا الإبداع.

Exit mobile version