Site icon صحيفة الوطن

أوراق شخصية تفتح آفاق المعرفة بين الثقافات … د. نجاح العطار: الحكايا التي أعطتنا إياها معاركنا تحتاج إلى الزمن الذي تستوعبه أفئدة كتابنا

وما تزال ذاكرتها تبهج القارئ بالراقي وما يزال قلمها الوطني ينير الصفحات بلاغة وأدباً

لا يدانيها واحد من الأدباء لغة وصورة وبلاغة وقدرة وانتماء، كتابتها منذ أول إنتاجها وإلى اليوم على مستوى عالٍ للغاية، ومفردات مرصوفة لتليق بجيد اللغة التي أحبتها وانتمت إليها، وفكر نيّر منفتح قارئ يليق بالثقافة التي تمثلها وتنتمي إليها، بل شاركت في بنائها وتصميمها في سورية عبر عقود طويلة، وأزعم أن كتابات الدكتورة نجاح العطار قادرة على تجديد اللغة والفكر في كل التفاتة في صفحة تقدمها للقارئ والمثقف.

أوراق شخصية

قدمت الدكتورة العطار في السنوات الأخيرة عدداً من المؤلفات التي حوت كلماتها ورسائلها وما قدمته في منتديات ومؤتمرات ولقاءات في سورية وخارجها، وعرضت المشروع الثقافي الذي مثلته وتمثله، ولم يكن يخطر ببال أن تفرد شيئاً من سيرتها الذاتية، وهي المثقفة والمسؤولة والأديبة التي تفصل فصلاً تاماً بين حياتها وعملها.. وأذكر مرة لقائي بالدكتور وائل في زيارة له إلى دمشق وبحضور الدكتور الراحل اللواء ماجد العظمة وحدثني عن معاناته في صغره حين لم يسمح له والده بركوب سيارته.. ضحك الجميع، وقلت للسيدة الدكتورة لِمَ لا يطلع القرّاء على هذه الجوانب الحياتية والتربوية؟ لم أجد جواباً، وضاع استفساري مع الأيام حتى صدر كتاب «أوراق شخصية في بريطانيا والوطن» الصادر عن الهيئة السورية للكتاب في وزارة الثقافة، ومع قراءتي لهذا الكتاب جائتني إجابات وقرأت الجانب المشرق في حياة المسؤول الذي لا تغلبه الأنا، ولا يغرقك في التفصيل، ولا يدين الجميع ليكون هو الوحيد العارف والقادر، وكان ذلك من خلال التخيّر لتقسيم الكتاب: بريطانيا، الوطن، وتحديد أوراق شخصية بالتنكير لنفي فكرة الاستيعاب، أو ما يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ من أن هذا الكتاب سيرة ذاتية، بل هو أوراق شخصية متميزة بعناية لفائدة القارئ، وتقديم ما يلزمه ويحتاجه، خاصة أن ما في هذه الأوراق يعود إلى ستة عقود من الزمن.

الدافع والوفاء

من الدافع لتسطير هذه الأوراق في الإهداء تبدأ السيدة الدكتورة نجاح العطار، من طبيبيها اللذين تباهي بهما ولعلمهما وتربيتهما وانتمائها وائل وأروى، هذان طبيبان من دوحة علمية كريمة آثرا العمل بصمت وبعيداً عن الضوء والادعاء، فاستحقا من الدكتورة العطار الأديبة والأم وصاحبة الأوراق أن تقدم إليهما، الكتاب الذي رأى النور بإلحاحهما على أن تنجزه، وأضيف إليهما وقد ذكرا صراحة ووحدهما في الإهداء، أضيف ذكرى رفيق الدرب الدكتور اللواء ماجد العظمة الذي بقي إلى جوارها، وبقيت على عهدها وجواره حتى اللحظات الأخيرة، تراه القامة الوطنية الكبيرة، وتذكره بالعرفان زوجاً وأباً من طراز فريد، وأظن أن تلفّت الدكتورة العطار في المكان بحثاً عن هذا الرجل الفريد العالم والأديب كان دافعاً إضافياً لإنجاز بعض أوراقها التي تدين في بعضها إلى رحلتهما المشتركة في الحياة.

«مزاياه لا تعدّ.. إمكاناته كبيرة، ومنطقه الملتزم والواعي من دون شطط كان بعضاً من صفاته الطيبة، ومما لا ينسى له وعنه، وسيبقى الدكتور ماجد العظمة في ذاكرتنا وقلوبنا حياً ما بقينا، بهما يتمجد وعنه تروى، وتقدم للأجيال أمثولة حية للإيمان بالوطن والعمل الدؤوب في بنائه.. وما زلت أقدر عظمة إخلاصه ووفائه وحرصه على بناء الحياة العائلية بشكلها الأمثل.. في القلب حزن، وفي العين دمع وآلام الفقد على رحيله بالغة، لا يخفف منها إلا الإيمان بأن الله سيرفعك إلى جواره، بصالح الأعمال التي أديت في حياتك».

الإهداء للدكتورين الطبيبين، وفي كلمتها عن د. ماجد العظمة لم تكن د. العطار ذاتية، بل كانت تتحدث في الشأن العام، وفي الهم الذي يعمل من أجله السوريون، ويكفي أن نقرأ كل ما كتبته بألم وحب وانتماء عن د. ماجد العظمة، لنعرف أنها تكتب شخصيتها من خلال مرحلة وسيرة وطن.

أدنبره بين هنا وهناك

لأن الدكتورة العطار تقدم أوراقاً، فهي غير قابلة للاختصار، وبسبب لغتها العالية التي تأخذ من النسق الأعلى في اللغة وروحها، وليس من المعجم وحسب، فإن القارئ يتنقل بين الحضارتين العربية والغربية بمنتهى الرشاقة، ما بين دمشق وأدنبره، ما بين جامعة دمشق وجامعة أدنبرة، ولعل أهم ما يستوقف في الرؤية العميقة بين هنا وهناك أن الكاتبة لا تنتقص من حق حضارتها العربية، مهما كان وضعها، ولا تنبهر بالحضارة الغربية التي قابلتها هناك، وهي في الوقت نفسه لا تأخذ موقفاً حاداً مع أحد الجانبين، لكن عقليتها المنفتحة القارئة، جعلتها تشير إشارات بمنتهى الدقة والذكاء لبعض القضايا التي تحب أن تكون في بلادها وهي هناك، وإلى أخرى تستهجنها هناك، وتستغرب أن تقف عندها، وذلك دون إبراز أي نوع من الشكوى أو التذمر، ولا تستخدم أسلوب نقد جارحاً بحق جامعات بلدها التي كانت آنذاك وليدة وجديدة قبل ستة عقود.

«استغربت أن يقابلني رئيس القسم في الجامعة بكل هذا الترحيب إذ لم نعتد على مثل هذا في بلادنا.

«دخل الأستاذ الصف منذ يومين وأعطانا نصاً أدبياً للغزالي نحلله، ونكتب في ذلك رأينا في تقييمه، وكم استغربت حين رأيته ينصرف بعد أن وزع الأوراق، كيف يتركنا وحدنا دون رقيب؟ في جامعتنا كان هذا مستحيلاً».

«مرة كنا نستمع إلى محاضرة يلقيها رئيس القسم حين اقترح أحد الطلاب على الأستاذ المحاضر أن نشرب الشاي، وابتسم الأستاذ وأذن بذلك، فخرجنا إلى غرفة مجاورة أعد فيها بعضنا الشاي، ثم حمل كل مناه فنجانه بما في ذلك الأستاذ، ودخلنا الصف من جديد».

«قالت: نحن بشكل عام نفضل أن نعيش حياة أبسط، بعيداً عن الركض اللاهث والمتسارع وراء المال، حيث نجد فيها الوقت الذي نتفرغ فيه لذواتنا وأطفالنا».

«الاستاذ هنا ليس محاضراً فحسب بجتر عبر الأعوام دروسه، ويلقيها بلا مبالاة، بل هو باحث أولاً، يعكف على الإنتاج المتواصل».

«تقليد إنكليزي جميل لم نعتد نحن عليه، الأستاذ يدعو تلاميذه إلى بيته في حفل للعشاء أو لتناول الشاي، ويدعو معهم أساتذة آخرين».

«أهم ما يستلفت هو بروز شخصية الطالب أو الطالبة ونضج هذه الشخصية، يحس من يتحدث معهم أنهم أناس قد وجدوا طريقهم، وأنهم يعرفون ما يريدون بوضوح».

«في بريطانيا جو جامعي خاص منفتح ومتميز، معزول عن ممارسات السياسة البريطانية في الخارج».

«ظلت د. جين مدرسة الأدب الإنكليزي إلى جانبي حتى وصلت سيارة الإسعاف، كانت في غاية اللطف، وقد تخلفت عن درسها، ولم تبارحني قبل أن تطمئن على وصول طبيب الجامعة».

هذه شذرات اقتطعتها من حديث الدكتورة العطار عن دراستها في أدنبرة، والتي تقدم موازنة دقيقة دون أن ترفع أي شعار، ودون مذمة وانتقاص أو تفاخر، وكم نحن بحاجة إلى مثل هذه الأوراق التي تجعلنا قادرين على قراءة أنفسنا وما نحتاجه من تغييرات قبل قراءة الآخر، ومن ثم تجعلنا قادرين على قراءة الآخر، وفهم ما يتميز به عنا في كل مجال.

بين عقليتين متباعدتين

في غمرة حديثها عن الدراسة والوسط الإنجليزي، والجامعة تعرض الدكتورة العطار لنماذج إنسانية من أوساط النساء اللواتي التقت معهن، ولم تتحدث عن حقوق المرأة أو ترفع شعارات، وإنما عرضت لأساليب الحياة هناك من خلال نماذج مثقفة وواعية واستاذات جامعيات، ليكتشف القارئ أن الحياة الاجتماعية فردية وليست جمعية كما نحاول أن نحارب طواحين الهواء لمحاربة مجتمع أو للخروج منه، أو لقسر الآخرين على الدخول في أسلوبه وآلياته. كما تعرضت لبعض الشخصيات الأجنبية والعربية فقدمت نماذج عن اختلاف العقليتين، وتشعر بالصدمة وأنت تقرأ نظرة المرأة الإنجليزية للعمل والزواج والإنجاب وتحمّل الأذى في الأسرة.

وللوطن حكاية ممتدة الكتاب يحمل قسمين مهمين عن رحلة بريطانيا، وعن الوطن ومن لحظة وقوفها في أدنبرة أمام الثلج المنهمر كانت الدكتورة العطار متسوقة للشام ومع ذلك من الوطن هو الأغلى تعود الدكتورة العطار للحديث عن الوطن ومفاجآته، وهو الذي لم يغب لحظة عن روحها، ونذرت نفسها من قبل ومن بعد للحديث عنه وعن قضاياه، وأجد من نافل القول إن أستدل على علاقتها بالوطن، أو أستلّ من كلامها شيئاً عن رأيها بالوطن والوطنية، فقد كرست مؤلفاتها كلها وحياتها من أجل الوطن وثقافته، ويكفي أن آخذ نصاً اختارته الدكتورة العطار ختاماً لكتابها، والاختيار يدل على المختار وروحه ونوازعه، وهي مقطوعة للشاعر الروسي خلينيكوف:

عندما تموت الخيول، تلهث وتنتفض
وعندما تموت الأعشاب تذبل وتيبس
وعندما تموت الشمس تفتر وتنطفئ
ولكن عندما يموت الرجال
فإنهم يغنون أحلى الأغنيات

هكذا هو مفهوم الرجولة والبطولة والوطن عندها، وربما ليس مصادفة أن يبدأ الكتاب بالحديث عن الرجل العالم الوطني الدكتور ماجد العظمة، الرجل الذي سمعت فيه إشادات ما سمعتها بمن سبقه أو جاء بعده، لتختم الكتاب بالحديث عن أحلى الأمنيات بموت الرجال، وما بين البداية والخاتمة لحن جميل صاغته الدكتورة العطار بذوب إحساسها، ورهافة لغتها، وعمق مشاعرها، وصدق انتمائها.. كل هذا وهي أوراق شخصية لم تستوعب منحنيات رحلة العمر بشقائها وسعادتها ونجاحها وإخفاقها.. فلتكن هذه الأوراق دليلاً لكل عشق للعلم والأدب والوطن.

Exit mobile version