Site icon صحيفة الوطن

الأحاديث والذكر

قرأت في سيرة الصديق الراحل عبد السلام العجيلي البورجوازي البدوي النبيل قصة طريفة، فيها ما فيها من الورع والزهد والابتعاد عن كل ما يمكن أن يشين اسمه تتعلق بأخيه المهندس الذي يصغره سناً، وقد قام بإرساله لدراسة الهندسة على حسابه الخاص عام 1960 إلى الولايات المتحدة، وأخذ يرسل له مصروفه الشخصي وزيادة من عوائد عيادته في حوالات متتابعة، وفجأة توقف العجيلي عن الإرسال، وطلب من أخيه أن يعمل بنفسه، لأن العجيلي قال له: صرتُ وزيراً وأقفلت عيادتي، وأنا موظف أتدبر أموري بمرتب الوزارة، وتقلد العجيلي وزارات الثقافة والإعلام والخارجية أصالة وبالإنابة.

وعندما انتهت مهامه أرسل لأخيه، أبشر سيصلك ما تريد فقد عدت لعيادتي ولم أعد وزيراً، وحين سألته في جلساتنا عن هذه القصة استغرب استغرابي، وقال لي: هل صارت الأصول مستهجنة؟! هذه حقيقة وليست تمثيلاً، وتابع لي بقية القصة بأن عدداً من المسؤولين حوسبوا لأنهم ابتعثوا أقاربهم أو قاموا بتوظيف أحبابهم ومن يلوذ بهم، أما أنا فلم يقترب مني أحد، وبقيت سمعتي كما هي، وبالمحصلة درس أخي وتخرج وصار مهندساً مرموقاً، ولكن ليس على حساب الناس وسمعتي!

قصة فريدة وغريبة في زماننا، ولم تكن قابلة للتصديق لو لم تذكرها الكتب، وسمعتها من العجيلي في أثناء زياراته إلى دمشق لحضور اجتماعات مجمع اللغة العربية الذي كان عضواً فيه، وحين كان يدعى إلى هذه الاجتماعات كانت إقامته في فندق الشام، وفي زياراته الخاصة كانت إقامته المعتادة في فندق أمية، وكان حريصاً على ألا ينزل في الفندق نفسه حتى لا يقال عنه أي شيء! وفي هذه الجلسات سمعت من العجيلي وبصوته قصيدته المؤلمة في رثاء ابنه مازن الذي اغتالته سيارة رعناء على طريق سفره إلى الرقة، ويومها قال: أودعه وأنا مجروح ومقتول، لكنني لو أنشأته على غير ما أؤمن به لكان وداعه أكثر قسوة! وها هم الأحباب كلهم يشاركونني المصاب لأنهم يعرفون من عبد السلام!

حضرتني هذه القصة للرمز الوطني الجميل عبد السلام العجيلي، وكثيراً ما تحضرني صوره وتصرفاته في كل موقع ومكان، وعند كل فاصلة تقابلني، وبقيت هذه التفاصيل المسعدة المؤلمة حتى وداعه في مشفى أمية قبل رحيله بيوم، حيث كان في الغرفة وحده مع ولديه الكريمين وبعناية الدكتور عصام العجيلي، تكوّم يومها على السرير وقال: هذه المساحة تكفيني، اجلس إلى جواري..!

حضرتني هذه الحادثة التي يجب أن تكون سائدة ومألوفة وأنا أرى وأسمع وأشاهد تجاوزات فردية وجماعية من أجل المصالح والعلاقات ومن يلوذ بنا، فهذا لأنه صديق يمكن أن يكون في موضع يسيء إليه أكثر من أن يحسن! وذاك بسبب مصالحه يتخلى عن أداء الأمانة ليضمن ما يريد! وثالث لأن فلانة زوجة صديق له يتبنى وجودها في مكان هرمي عال لا يقبل أنصاف العارفين، والأمور كلها تمرّ وتسير، ويفرح الذين فعلوا ما أرادوا، ولا يتحرك لهم جفن أمام هول ما فعلوا! وهم أنفسهم يتحدثون ويكتبون وينظّرون في طرائق الإصلاح والتغيير، وضرورة فعل ما هو في مصلحة البلد الذي احتقروه بأنفسهم!

إن كانت الحكاية، وهي مثبتة ومدونة في ذكريات العجيلي، والذين دوّنوا دراسات عنه، فقد شفعها وشفعوها بالعتمة، بأن الذين استغلوا مواقعهم لمصالحهم وأقربائهم وأصحابهم تمت محاسبتهم، وعوقبوا على ذلك عقاباً شديداً وعلى رؤوس الأشهاد، وانتقلت قصصهم وأسماؤهم بالكتب والسير، فإن الذين يمارسون هذه الأعمال، والذين يمعنون بها رغم الخراب، والدمار والحرب، ليزيدوا الدمار دماراً، غير عابئين بأي شيء، لأنهم لا يساءلون، ولا يراجعهم أحد بقراراتهم، ولا يناقشهم واحد فيما اتخذوه من قرارات صائبة أو خاطئة، فهم في مأمن ومكمن، ويباهون بما فعلوا، وخاصة أنهم جعلوا حولهم سياجاً من حماية من خلال مصالحهم والأشخاص الذين تمترسوا معاً، وتزداد طبقة الفساد سماكة، وتتعذر معالجتها لأنها تتحول بفعل الزمن والقدرة وغياب المحاسبة إلى نهج مختلف، وإلى نهج سائد، ويصبح هو الطريق للنجاة الفردية والمجتمعية في ظن هؤلاء!

تتلاشي المؤسسات بالفساد والمحسوبية مع أنها لا تزال قائمة بأبنيتها، ويتعذر بعدها أن تتم أي معالجة، ويأتيك من يتبرع بالقول- وهو على حق نسبياً- إن الفساد صار كبيراً ومتجذراً، والأشخاص وإن تبدلوا فلن يكونوا قادرين على فعل شيء حياله!

رحمك اللـه أيها السياسي والدبلوماسي والبرلماني والطبيب والكاتب، وحين زيّن صدرك بوسام الاستحقاق قبل رحيلك فأنت تستحقه، وما انتسبت إلى حزب أو كتلة أو نقابة سوى نقابة الأدباء! ولم تقبل جائزة من أي مكان في العالم لأنك كنت ترى نفسك هاوياً للأدب..!

أتذكر؟ أقفلت عيادتك بعد عمر من الطب، وكانت إشارة إلى إنهاء رحلتك كما تحب أنت، وكما ترضى أنت، ولم تستطع أي وثيقة أن تتناول تجاوزاً واحداً لك.. يرحل الجميع سواء أحبهم الناس وانسجموا معهم أم لا ويبقى من المرء الأحاديث والذكر.. كذلك قال لماوية (إن المال غاد ورائح) وكذلك استلهم بدوي الجبل فضمّن.

Exit mobile version