Site icon صحيفة الوطن

مواجهة العسكرة بالاقتصاد

لم تكن دعوة رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا في قمة بكين الشهر المنصرم لقادة بريكس إلى إصلاح تركيبة مجلس الأمن الدولي عبر تمثيل دائم للقارة الإفريقية في المجلس، مجرد مبادرة لا تلبث أن تضيع في «زحمة» القضايا الدولية الشائكة والمعقدة، بل جاءت نتيجة حاجة ملحة لإصلاح مجلس الأمن ليتمكن من أداء مهامه بمصداقية وفعالية، عبر حوار رفيع المستوى حول التنمية العالمية.

ولم يتوقف الرئيس الجنوب إفريقي عند حدود المطالبة بإصلاح مجلس الأمن، بل لتأكيد الحاجة للانتقال من رؤية مشتركة إلى نظام دولي جديد لدعم نمو وتطور الاقتصادات الناشئة والتعاون بروح الانفتاح والتضامن، لتنمية مصالح وقيم مشتركة، وتشكيل نظام دولي شامل ومنصف، والتصدي بشكل جماعي لقضايا تغير المناخ والصراع والفقر وانعدام الأمن، والعمل على تعزيز السلام والأمن الدوليين وإقامة حوار شامل لإيجاد تسوية سلمية للنزاعات بين الدول.

في الاتجاه ذاته يلاحظ الآن السعي الصيني باتجاه تطوير نموذج اقتصادي عالمي جديد ينهي هيمنة القطب الواحد، ويفتح الباب أمام إستراتيجية اقتصادية جديدة متعددة الأقطاب، من خلال توسيع قاعدة مجموعتي بريكس وشنغهاي، حيث يُنتظر انضمام إيران إليهما وانضمام بيلاروسيا إلى شنغهاي، وبتوجيه الدعوة إلى السعودية ومصر والإمارات للانضمام أيضاً إلى بريكس وشغل مكانة مميزة بداخلها، وخاصة في خضم التحولات السياسية والاقتصادية الكبيرة التي يشهدها العالم، وانضمام ممثلين للأرجنتين ومصر وإندونيسيا وكازاخستان ونيجيريا والإمارات والسعودية والسنغال وتايلاند إلى مشاورات «بريكس بلس» وهي الدول التي تعتبر الآن أعضاء محتملين في «بريكس»، يُضاف إلى ذلك تأكيد بكين أهمية التمسك بالتعددية الحقيقية والمشاورات المكثفة والمساهمة المشتركة وتبادل المنافع ودعم الانفتاح ومعارضة الانغلاق والإقصاء.

ويبدو واضحاً، أن الجهود الحالية المكثفة لبلدان «بريكس» و«شنغهاي» بدأت باتخاذ منحىً عملياتياً أكثر جدية وفاعلية وتأثيراً من ذي قبل، وخاصة في المرحلة الراهنة التي تتجه فيها واشنطن وكومبارس الدول الأوروبية المتلطية وراء عباءتها الأطلسية، باتجاه عسكرة العلاقات الدولية وتأجيجها، واختلاق النزاعات غير المسوغة بين الدول، وتحفيز بعض الدول الصغيرة على التصرف بعدائية لا مسوغ لها ضد بلدان العالم المناهضة للسياسة الأميركية وخاصة في الشرق الأوروبي وأميركا اللاتينية والقارة الإفريقية، حيث يعمل قادة الغرب الاستعماري على وضع خطط لمزيد من الإنفاق الحربي والتصعيد العسكري، على حين تُواجه بلدانهم أزمات تضخّم وركود لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من ذلك تبدو الولايات المتحدة الأميركية وخاصة بعد قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في مدريد، ماضية في العمل على أخذ العالم أجمع باتجاه الحرب من خلال عملية إنعاش عسكرية حلف الناتو والعمل على توسيعه، أملاً في أن تكون له القدرة على مواجهة قدرات روسيا العسكرية، وقدرات الصين الاقتصادية الإستراتيجية والعسكرية على حدٍ سواء، ناهيك عن القلق الأميركي ليس فقط من القدرات العسكرية الروسية، بل من عدم اكتفاء بكين بالاعتماد على قدرتها الاقتصادية وحسب، ومضيها بصورة عملية ومن زمن غير قريب في تطوير قدراتها العسكرية الإستراتيجية.

في هذا الصدد فرضت الولايات المتحدة الأميركية على شركائها الأطلسيين في قمة مدريد الأخيرة رؤيتها بأن الاتحاد الروسي يشكل التهديد المباشر لأمن الدول الأعضاء، وبأن الصين تشكل التحدّي الرئيسي لأمنهم ومصالحهم، حسب ما تضمنته الوثيقة الصادرة عن القمة الأطلسية الأخيرة.

في السياق تعمل واشنطن على إقناع حلفائها الأطلسيين بالمراهنة على إمكانية تخلي الصين عن شراكتها الإستراتيجية مع روسيا، على اعتبار أن الشراكة الصينية الروسية باتت تشكل أكبر تهديد للهيمنة الغربية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، آخذة في الاعتبار نجاح روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين في استعادة حيويتها، ونجاح الصين في منافسة الولايات المتحدة على مكانة أكبر اقتصادات العالم، ما يعني التمهيد لنشوء بيئة بديلة تلجم الأطماع الأميركية.

على ضوء ما تقدم، يمكن القول إنه ليس من مصلحة أحد، الذهاب باتجاه التصعيد عربياً وإقليمياً ودولياً، غير أن ما نلحظه الآن من قمم هنا تقابلها قمم هناك، وحراك «مكثف مرتبك إن لم نقل غير متوازن» من الجانب الأميركي الأطلسي، يقابله حراكٌ «موضوعي هادئ ومتوازن»، من الجانب الآخر المتمثل بروسيا الاتحادية والصين الشعبية وبعض دول غرب آسيا، ما يعني ذهاب العالم نحو نشوء أحلاف عسكرية جديدة، وتكتلات اقتصادية نوعية جديدة أيضاً، واصطفافات سياسية مختلفة الأهداف والمواقف والرؤى المتباينة، ربما تذهب «اللهم في حال تراجعت الولايات المتحدة الأميركية عن غطرستها»، باتجاه «يالطة جديدة» تلافياً لنشوء حالة جديدة ومتطورة من الحرب الباردة بين الشرق والغرب، قد تشكل مقدمة تهيئ لاحتمال الانزلاق بفعلٍ أميركي أخرق، نحو صدامات عسكرية عنيفة واسعة النطاق، لن تكون في مصلحة أحد، وتدفع أثمانها شعوب العالم الثالث الفقيرة.

Exit mobile version