قضايا وآراء

تداعيات «قنبلة تايوان» التي لم تنفجر

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن جرى الإعلان عن زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، وهي الزيارة التي حدثت يوم الثلاثاء قبل الماضي، والحدث يسيطر على مناخات السياسة والإعلام العالميين بدرجة طغت على أحداث أخرى مهمة مثل تطورات الحرب الأوكرانية والتهديد الواقع على أمن الطاقة والغذاء العالميين، والمؤكد أن في الأمر ما يدعو إليه، قياساً لمعطيات مهمة منها أن الأحداث هنا لا تنفصل عن بعضها بعضاً بل تبدو متشابكة بطريقة هي أشبه بقماشة يحوكها نول جرت برمجته ثم راح ينتج أنواعاً منها لا تختلف كثيراً عن سابقاتها، لكن الأبرز فيها هو أن هذا الصراع الصيني- الأميركي البادئ بوضوح منذ مطلع الألفية الراهنة، سوف يحدد، وإلى درجة كبيرة، معالم هذا القرن وكذا لونه وتراسيمه التي سيبدو عليها، ولذا فإن كل ما يجري من أحداث، على جسامتها، يمكن النظر إليها كـ«ملحقات» بذلك الصراع الذي بدا في الأيام القليلة الماضية كما لو أنه ماضٍ نحو «حرب القرن» التي أخذت غيومها تتكاثف بشكل يشي بـ«الاستمطار»، جاء ذلك مع المناخات التي راحت كل من بكين وواشنطن تسعى لإشاعتها، فالأولى اختارت سبيل التصعيد الذي وصل حدوداً غير مسبوقة لدرجة راجت معها تهديدات بالتعامل مع طائرة بيلوسي كـ«هدف عسكري» إذا ما رافقتها طائرات عسكرية، والثانية عندما قررت إتمام الزيارة تحت أي ظرف كان، والمؤكد هو أن ما جرى كان تدريباً أو هو أشبه بـ«بروفة» لجولات ستكون أكثر حدّة في سياقات عدة، لكن مع الحذر الشديد في التعاطي مع لحظة «الضغط على الزناد» التي تمثل إعلاناً عن انغلاق سبل السياسة مفسحة المجال واسعاً لسبل أخرى يمكن لها فتح ما انغلق.

كان الخط البياني الراسم لمسارات التصعيد الصيني وما قابله من تصميم أميركي على الوصول في الأمر نحو غاياته المرجوة منه، كاشفاً لمعطيات عديدة كان أبرزها أن الولايات المتحدة لا تزال هي الممسكة بزمام المبادرة الدولية، وهي القادرة حتى الآن على تغيير قواعد اللعبة في المفاصل المؤثرة على التوازنات الدولية على الرغم من «وهن» القوة الذي تبديه ووصول «القبضة» إلى مستويات انحدارية غير مسبوقة منذ عام 1991 الذي شهد انفرادها بالسيطرة العالمية، والشواهد، إضافة إلى «شاهد» تايوان الأخير، على ذلك عديدة، فهي استطاعت عبر الإعلان عن تحالف «أوكوس» أيلول الماضي الذي جمعها جنباً إلى جنب مع بريطانيا وأستراليا، توجيه الأنظار إلى نصف الكرة الجنوبي، واستطاعت أيضاً عبر الدور الذي لعبته في دفع الأزمة الأوكرانية نحو ما سارت عليه ربط أوروبا بوثاق يشدها إلى حبائل الحليف على الضفة الأخرى من الأطلسي، منهية نزعة «الاستقلال» التي كانت تبديها الأخيرة، وباعثة في الآن ذاته الروح في جسد «الناتو» الذي كان يعيش «حالة موت سريري» وفقاً لتوصيف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أطلقه قبل نحو ثلاثة أعوام.

نجحت الولايات المتحدة عبر زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان في تحويل الأنظار هذه المرة إلى الشرق الأقصى، والزيارة التي تعتبر الأولى من نوعها لمسؤول أميركي، بهذا المستوى، منذ نحو 25 عاماً، هدفت في بعدها الأقصى إلى إظهار بكين أسيرة مصالحها الاقتصادية التي تدفع نحو تكبيل القوة العسكرية بل وتذهب نحو تحييدها لتصبح خارج الحسابات، فالصين الآن باتت تمثل المرتكز الأساسي للاقتصاد العالمي، والتمدد الذي لا تزال تحقق المزيد من النجاحات فيه في هذا السياق، سيجعلها تفكر ألف مرة في الحفاظ عليه، الأمر الذي سيدفع حتماً، وتلك ربما هي القراءة الأميركية، إلى الابتعاد عن كل ما يعكر صفوه، واللافت هنا هو أن الإستراتيجية التي اعتمدتها بكين في التعاطي مع مسألة تايوان كانت تقوم، على مدى ربع القرن الفائت، على مراكمة المزيد من أسباب القوة بشكل يجعل من استعادة الجزيرة إلى السيادة الصينية تحصيل حاصل، والراجح هو أن سلوك واشنطن الاستفزازي، والذي لن يقف عند الحد الذي وصل إليه، كان هدفه هز الثقة بتلك الإستراتيجية عبر الضغط على الأعصاب الصينية في لحظة يشهد العالم فيها توترات على درجة عالية من الخطورة.

هناك الكثير من أوجه الشبه بين تعاطي الأميركيين مع «المطالب الأمنية» الروسية التي أدى تجاهلها إلى انفلات عيار النار في أوكرانيا شهر شباط المنصرم، وبين تعاطيهم مع الحساسية الفائقة التي تبديها بكين تجاه مسألة سيادتها على أرضها، وكذا اتجاه مبدأ «الصين الواحدة» الذي اعترفت به واشنطن رسمياً منذ عام 1979، لكن وجه الاختلاف كما يبدو، في كون واشنطن موقنة بأن الفعل في الحالة الصينية، لن يفضي إلى ما أفضى إليه في حالته الأولى، بل على العكس فإن «التشنج» الناجم عن ارتباك الإيقاع ما بين القوتين، الناعمة والخشنة الصينيتين، سوف يضع بكين بموضع حرج ويمس بهيبتها التي لن تستطيع الانتصار لها على وقع الحسابات الاقتصادية، وفي النهاية فإن كلا الفعلين سوف يعيدان رسم التوازنات القائمة على ضفاف المحيطين الهندي والهادي ولوقت قد يطول، وبمعنى أدق لوقت تجد فيه بكين نفسها قادرة على الدخول في مسارات يمكن لها استعادة التوازنات التي اختلت في تايوان في 2 آب 2022.

من المؤكد الآن أن الولايات المتحدة قد نجحت عبر حساباتها في كسب جولة تايوان الأولى للاعتبارات السابقة أعلاه، وهي من دون شك أجادت موازنة المعطيات التي جاءت نتائجها وفقاً لتقديراتها، لكن المؤكد أن فتيل الديناميت، الذي تشعل فيه الشرارة ثم تمضي في مسارها غير المرئي، قد التقط الشرارة التي من الصعب الآن، تحديد لحظة وصولها للحشوة التي تعني حدوث الانفجار، بينما السلوكيات التي أعقبت «بث» الشرارة توحي بأن طول الفتيل قصير وأن زمام المبادرة اليوم باب في اليد الصينية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن