Site icon صحيفة الوطن

لندخل إلى حقيقة الرسالتين في السلام والرحمة … المفتي العام لـ«الوطن»: الإسلام هو حاملنا ونتوهّم عندما نظن أننا حاملوه

| إسماعيل مروة

يومان مجيدان من أيام الإنسانية, يوم ميلاد عيسى عليه السلام, ويوم ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم
يومان لهدي البشرية جمعاء، يومان لرسولي المحبة والرحمة يأتيان متزامنين، والعالم يغوص في عالم من دمار وقتل وحروب، في عالم انتفى فيه السلام وغابت المحبة، والأجدى بنا أن نقف عند هدي الرسولين اللذين جاءا لهداية البشرية إلى الطريق الأمثل في حياة فيها النظم الأخلاقية والقيم.
كل يدّعي أنه من أتباع هدي الرسولين، وما يجري على الأرض عكس ما جاء به هديهما.. «الوطن» تبارك للمسلمين والمسيحيين بميلادي محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، وتتوجه إلى قرائها بحديث الروح والعقل والإيمان مع سماحة المفتي العام للجمهورية العربية السورية الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون بحديث خاص فيه منارات للاهتداء والاقتداء للوصول إلى جوهر العلاقة مع المرسِل.. فلندخل إلى عالم من حقيقة رسالة السلام والرحمة.

البحث في الجوهر

نحن اليوم لا نقف عند جوهر الأشياء، نقف عند الأشخاص، ولا نقف عند الغايات، وفي حياتنا عامة، هناك مرسِل ورسول ورسالة ومرسَل إليه، فالمرسِل أرسل الرسول والرسالة إلى المرسل إليه ليرتبطوا بالمرسِل، فوضعنا الحجاب المتمثل في الرسالة والرسول، وانشغلنا بهما، ونسينا المرسِل سبحانه، وقد حاولت المؤسسة الصوفية أن تأخذنا إلى هذا الجانب (اقرأ القرآن وكأنه عليك أنزل) اقرأ تفاسير السابقين، ولكن قل ما حظّي من القرآن، فلفظ اقرأ وجه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل من يقرأ القرآن، فلماذا نقرأ بعقل غيرنا لا بعقلنا، ليس إنكاراً لقراءة غيرنا، فنحن من علومهم نستفيد، ففي سور كثيرة من القرآن حكى سبحانه حكايات السابقين لنستفيد من ذلك.
علينا أن نقرأ ثلاثة كتب: الكتاب المدون، الكتاب المكون، الكتاب الإنسان.. فالكتاب المدون هو الكتب المنزلة، وترتبط به كل شروحه التي نقرؤها، كل ما كتب هو شرح للمدون.
والكتاب المكوّن هو الكون حولنا، واستدلالنا بالكتاب المكون، ومن ثم إلى الكتاب الإنسان، فكل ما يتعلق بالتربية الإنسانية له مثال وشاهد.
اليوم عندما يأتي ميلاد المسيح عليه السلام، وميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، يأتيك من يقول: هل يجوز الاحتفال بالمولد أم لا يجوز؟
الأمر يتعلق بما نأخذه من ذكرى المولد نموذجاً لحياتنا الإنسانية، فنتعلم ما ينفعنا؟ وإلا فلماذا حكى القرآن قصة مولد موسى؟ الأمر ليس مجرد حكاية، وإنما استشهاد للكتاب الإنسان.
فسورة يوسف عليه السلام لو قرأناها لهذبت مجتمعنا الأسري، ولو درسناها علمياً لبحثنا سر النوم في حياتنا ودوره، ولو درسناها سياسياً لرأينا الملك النموذج للأخلاق، ولو درسناها أخلاقياً لعرفنا أن بيت الرفاهية بلا أخلاق تموت فيه القيم، وحين يربى ابن على الأخلاق يكون في أعلى الأماكن.
الأخلاق جعلت يوسف على خزائن الأرض، خزائن الأرض الموجودة في بلادنا وليست في سواها، ولذلك كل الحرب اليوم على خزائن الأرض، وخزائن الأرض لدينا ونحن عليها، ولذلك الحرب مستعرة عندنا وليست عندهم!
ولما وصل إلى الحكم صدرت أحكامه بعدالة، فحين يسرق السارق يصبح عبداً لأنه يحتاج إلى تربية، لأنه اعتدى على أموال الناس…
اليوم عندما أحكي عن ميلاد عيسى عليه السلام من هذا المنطلق، فأول عنوان: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) العنوان هو السلام، فهل تركوه ينشر السلام؟ وهل أتباعه ينشرون السلام؟ هم يصنعون الأسلحة، وهم من أعلن أبشع الحروب بين طوائفهم نفسها، فما نراه من صراعات بين المذاهب الإسلامية ليست جديدة في العالم، ونماذج الكنائس التي قضي عليها أيام حروب الفرنجة حاضرة، وكم من البطاركة أعدم؟! فلم نعرف السلام في حياة المسيح عليه السلام.. فالذي يحتفل بالمسيح وميلاده يجب أن يحتفل بالسلام وأن يعمل للسلام، وبالأمومة.. ألم تقل عليها السلام (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) لماذا تتمنى الأم الموت؟ السبب أن مجتمعها كان فاسداً وهي خافت من المجتمع وليس من المولود، وحين يصل المجتمع إلى درجة من الفساد يستدعي أن الواحد منا يطلب الموت ليس مجتمعاً (لا تقوم الساعة حتى يمر الحي بالميت فيقول يا ليتني كنت مكانه)…
السيد المسيح اليوم لا علاقة له بما يجري…
ورسولنا لا علاقة له بما يجري…
فواحد أرسل للسلام، والثاني رحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
والقرآن ذكر (ألم يجدك يتيماً فآوى…)
أين هذا من المجتمع الإسلامي؟
أين من يموت جوعاً ومن يلقي الطعام؟
(وأما بنعمة ربك فحدث) أي اجعل الآخرين يتذوقون النعمة..
ميلاد سيدنا عيسى ميلاد السلام
وميلاد سيدنا محمد ميلاد الرحمة
ولا سلام بلا رحمة، ولا رحمة بلا سلام..
ما أساء للإسلام مثل المسلمين، وما خدم المسلمين مثل غير المسلمين
فما قدمه المرشح الرئاسي الأميركي خدم الإسلام أفضل مما فعل المسلمون، فخرج أوباما ليرد على ترامب: الإسلام دين سلام، وداعش خدمت الإسلام خدمات جلى، وأولاند يرد عليهم: الإسلام دين محبة.
حين ظننا أننا حاملو الإسلام كذبنا، الإسلام هو حاملنا..
(إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
(الراحمون يرحمهم الرحمن) الرسول الكريم تعامل مع المسلمين ومع غير المسلمين بالطريقة نفسها.
وعيسى عليه السلام أوجز رسالته (الله محبة) فإذا نفذنا هذه الجملة وصلنا إلى الغاية.
السلام لا يخرج متكلفاً، وإنما يحتاج إلى إنسان يخرجه من ذاته عن إيمان وعقيدة.
الرحمة… فسرها النبي عملياً في احترام الإنسان (لا تؤمنوا حتى تحابوا) ولا ينافق فيها، ولا تخرج إلا ممن ذاقها فأذاقها.
عندما نحكي عنهما يجب أن نتحدث عن تعاملهما مع أهلهما، مع لاعنيهما، مع محبيهما، مع من أرادوا قتلهما.. إن تعاملهما عكس ما يقوم بالتعامل به رجال الدين المسلمون والمسيحيون.
عيسى عليه السلام يقول: (باركوا لاعنيكم).
والقرآن الكريم (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس).
علينا أن نعيد النظر في التربية (أدبني ربي فأحسن تأديبي).
إن أهم ما نقف عنده في هذه الذكرى المباركة لرسولي المحبة والرحمة تلك الثمرة الأخلاقية التي من الممكن أن نخرج بها أو نستقيها من هديهما، لا أن نحتفل بالذكرى، ونقف عند المرسَل وننسى الرسالة والمرسِل..
ميلادان ورب العالمين
سرّ مشكلتنا اليوم أننا لم نعرف قيمة الإنسان في الأكوان، حيث لم نعرف قداسة الإنسان، فإذا بأمة الإسلام هي أكثر أمة يقتل بعضها بعضاً..! فاعرفوا قيمة الإنسان يا من قتلتم الإنسان، وذبحتهم الإنسان..
لو هدمتم الكعبة والبيت الحرام لكان أهون عند الله من قطرة واحدة من دم مؤمن…
من آدم معلم الملائكة إلى نوح الذي فوجئ بولده يخالفه، إلى إبراهيم مع والده وولده، حتى إذا جاء موسى اكتملت المدرسة، فلنوح ابن كافر، ولإبراهيم أب كافر، ومع موسى حاكم كافر.. وبعدها جاء المسيح عليه السلام المولود الطاهر.. ومن حكمة القدر أن نحتفل بميلادي سيدنا عيسى عليه السلام، وميلاد النبي صلى الله عليه وسلم…
وأتساءل عن ماهية الاحتفال: لماذا بعض أبناء الإسلام وإخواننا ينكرون الاحتفال بمولد رسول الله، ويبعدوننا عن رسول الله حباً، ويأمروننا برسول الله تخويفاً؟
فثويبة الرقيقة الكافرة التي فرحت بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها حبها من العبودية والنار! وأبو لهب الذي تبت يداه يفرّج عنه كل يوم اثنين لأنه فرح بالمولود الذي ولد، فلماذا لا تريدون أن تفرحوا؟ وإن لم تشاؤوا دعونا نفرح برسول الله، دعونا نحبه، لماذا تمنعون حبه حتى عن قلوبنا لماذا؟
ألم يقل لنا: صلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وأردّ عليكم؟
نعم من جمال القدر أن يلتقي ميلادان:
ميلاد السلام وميلاد الرحمة..
نعلن للعالم كله أننا لا نفرق بين أحد من رسله.
أنتم تفرقون بين بيت وبيت، بين مذهب ومذهب، جماعة وجماعة، أخ وأخ، ونحن نقول: الحمد لله رب العالمين، ولا نقول رب المسلمين، ولو قلناها لبطلت صلاتنا وعبادتنا.

أخوّة الإنسانية
نحن نقول: نؤمن أن إخوتنا في العالم سبعة مليارات أخ، أخو الإنسانية أولاً، وأخو الإيمان ثانياً، وأخو الوطن ثالثاً، وأخو النسب رابعاً، فإذا اجتمعت فيك يا أخا النسب أخوة الإيمان، وأخوة الوطن، وأخوة الإنسان، فابشر أنت خليفة الله في الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).
ولد المسيح عليه السلام، وسلام الله عليك يا سيدنا يحيى، يا من رأيته وسرت معه، وقدمت روحك يوم ذبحت بيد من يدّعون أنهم حكام ذاك الزمان، فإذا بك تسمع في كل يوم صلاة المسلمين خمس مرات، وفي هذا المكان تسمع صوت مريم وهي تخاطب ربها (أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر) وتسمع كلام رسول السلام (السلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا).
أنتم يا من تدّعون أنكم أتباع للمسيح في أوروبا، إن المسيح يتبرأ من صنع سلاح قاتل، ويتبرأ ممن يضع غذاءه بالبحر والبر، ليعيش فقراء الأرض على الفضلات والهوام، المسيح عليه السلام الذي قال (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) بريء من طائراتكم التي تقصف، ومن أسلحتكم التي تحرق، ومن مالكم الذي يهدد، ومن قراراتكم ضد المسجد الأقصى وحريته!

الإسلام والشام
الذين يقولون: لا إسلام في بلاد الشام، أقول لهم: كذبتم، فالنبي قال: رأيت عمود الإسلام سلّ من تحت رأسي وكله نور ووضع، فسألت جبريل: إلى أين أخذتموه وأين وضعتموه؟ قال: أمرنا الله أن نضع عمود الإسلام في الشام، وهو في الشام إلى يوم القيامة، فمن حارب الشام وأهلها وجندها وعلماءها وشعبها فإن خصمه الله والنبي والإسلام.
(وبراً بوالدتي، ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت، ويوم أبعث حيا، ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون).
كذلك عيسى بن مريم في القرآن، وكانت إشراقة اليوم الأعظم في الإنسانية.. كانت إشراقة مولد من جمع كل الأنبياء في قلوبنا، ومن حمل كل الشرائع في قرآنه، ومن كان للعالمين بشيراً فغردت بلابل الكون بميلاده، جاء لا يقصي أحداً، وجاء ليكون للعالمين رحمة (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) وأشرق نوره بالكائنات في ربيع الأنور..
جاء من لا يكفر أحداً
جاء من يرحم الإنسان والحيوان
جاء الإنسان الذي كان أول رحمة لأبيه وأمه ثم للعالمين
جاء ساجداً من اللحظة الأولى، ليقول لنا نحن أمة الإسلام، لا تسجدوا إلا لإله واحد، لا لطوائف ولا لمذاهب ولا لجماعات ولا لأعراق، إنما كانت المذاهب والطوائف والجماعات ثراء وعطاء فلا تجعلوها شقاء..
ماذا بقي لنا في يوم المولد من الرحمة المهداة؟
لم يبق من الإسلام إلا رسم واسم، وكأننا ما ذقنا الإسلام، وكأننا ما عرفنا الإسلام!

في ذكرى المولدين اليوم
تعالوا في يوم مولده، أوقفوا سفك الدماء، لا في جنيف، ولا في أميركا، ولا في موسكو، ولا في فيينا، نشكر لهم حرصهم وتعالوا إلى الشام، من دعا لها رسول الله: بارك اللهم في شامنا… تعالوا نقتد بسيرته التي لا تحيط بها الدنيا.. تعالوا إلى من قال له الله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وإلى من قال (السلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) أيها المسلمون والمسيحيون، وقد بلغ عددكم اليوم أربعة مليارات، تدّعون أنكم أتباع سيدنا عيسى وسيدنا محمد، أما آن لكم أن تصحوا إن كنتم من أتباع سيدنا عيسى فقط فتعلموا كلمة السلام، فقد فقدتموها منذ مئات السنين، مذ جئتم إلى الأقصى فذبحتم هناك باسم الفرنجة سبعين ألف إنسان داخله، وقد تركتم المسيح عليه السلام يوم أدخلتم شذاذ الآفاق إلى الأرض المقدسة، نعم تركتم السلام فغاب نور المسيح، وضاع سلام المسيح.
وأنتم يا أبناء الإسلام، المليار ونصف المليار مسلم (إنما أنا رحمة مهداة) فأي رحمة آراها بينكم، وأي إسلام نراه، وواحدكم يملك مليارات الدولارات، ويتباكى على اللاجئين في سورية والسودان والصومال وكيف يموتون جوعاً!
ما عرفتم يوماً (ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
سلام عليك سيدي صاحب الميلاد والذكرى، سلام الله عليك ونظرة من نظراتك لأمتك لعلها تخرج من ساحة الحقد والكراهية والتباغض والتباعد إلى الحب والسماح والإيمان.
سلام الله عليك وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
وهذا الوقت الذي ضم ميلادي عيسى ومحمد وقت مبارك للعودة إلى نور الرسالتين في الرحمة والسلام.
وميلاد رسولنا في الثاني عشر من ربيع الأول يضم ذكريات ثلاثاً: الذكرى الأولى ميلاد الحبيب.
الذكرى الثانية هجرته فقد وصل المدينة صباح الثاني عشر من ربيع الأنور.
الذكرى الثالثة وفاته صلى الله عليه وسلم.
ولد عند الفجر وهاجر ووصل المدينة عند شروق الشمس، وتوفي عند الضحى وكأن الحياة كلها من إشراقة شمس إلى ضحاها.

خلاصة الرحلة
يقول سيدنا علي كرم الله وجهه: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي العباس، وكان الوقت بعد الفجر، استند إليّ وإليه وخرج من البيت يجر قدميه من شدة الحمى، فما استطاع أن يقف على المنبر، فجلس على آخر درجاته الثلاث، ثم نظر إلى الناس في اليوم الثاني عشر من ربيع وقال: أيها الناس إن رجلاً خيّره الله أن يبقى في الدنيا ما شاء أو يختار رحاب الله، فاختار جوار الله، فصاح أبو بكر رضي الله عنه: نفديك بأرواحنا، فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر النبي يحكي عن رجل، فقال: ستعلم..
ثم التفت إلى الناس وقال: أيها الناس، إن الله سائلكم عني، من جلدت له ظهراً هذا ظهري فليجلد، فبكى الصحابة.. من شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليشتمه، ومن أخذت ماله فهذا مالي فليأخذه..
نفديك يا سيدي أنت الذي قدست الإنسان وحميته، وحميت الأعراض وكل ما يخصه..
قال الصحابة: نشهد أنك أديت الأمانة والرسالة ونصحت الأمة وكشفت الغمة.
فقال: اللهم اشهد… اللهم اشهد.
فقال: أيها الناس لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت، اللهم اشهد.

Exit mobile version