يثبت تاريخ الدول الغربية الاستعمارية أنها اعتادت استخدام كل أشكال الهجوم السياسي والعسكري في علاقاتها ونشاطها السياسي لابتزاز بقية دول العالم من أجل الهيمنة على مقدراتها وتقاسم المصالح فيها، وبالمقابل تجد الدول المستهدفة سواء أكانت قوة كبرى أم إقليمية ودولاً مستقلة، أنها مضطرة دوماً إلى تبني سياسة الدفاع لدرء الأخطار عنها والمحافظة على استقلالها ومصالح شعوبها، ومنذ الحرب العالمية الثانية حتى وقت قريب ما يزال هذا المشهد يعبر عن نفسه على المستوى العالمي والإقليمي في الصراع بين قوى تشن كل أشكال الهجوم والابتزاز السياسي والعسكري وبين دول تلجأ إلى الدفاع عن نفسها وحقوقها، وهذا ما نشهد أهم فصول سيناريوهاته فيما يجري على الساحة العالمية الآن بين كتلتين إحداهما تتجمع قدراتها وتتحد سياساتها باسم الاتحاد الأوروبي الذي يجمع 27 دولة بقيادة الولايات المتحدة ويشن حروبه السياسية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة ضد دولاً منفردة ويحاصر دولاً أخرى لكي يستفرد فيها.
في هذه المواجهات، بدأ العالم الآن يعتاد رؤية تجمع متزايد لدول كبرى مثل روسيا والصين ودول البريكس وتنضم لها دول مثل إيران وبيلا روس وسورية والجزائر وكوريا الديمقراطية على شكل تحالف دفاعي قادر على استيعاب دول إفريقية وآسيوية أخرى تتشارك فيه لحماية مصالح شعوبها، وهذا الإطار الدفاعي العالمي على الساحة الدولية بعد تطورات حرب الغرب على روسيا في أوكرانيا، أصبح من أهم ما يميز هذه المرحلة التاريخية التي تتصاعد فيها قدراته بهدف التخلص من كل قوى الهيمنة الغربية التي تتحد ضدها، ومن الطبيعي أن تعول كل الشعوب التي يهددها الغرب بالحروب والحصار وتسعى إلى الدفاع عن مصالح شعوبها، بوساطة هذا الإطار التاريخي غير المسبوق في حجم قدراته واتساع رقعته الجغرافية وبما يمثله من عدد كبير من سكان هذا الكوكب.
لكل ما سبق، يحذر عدد من المسؤولين في مجلس الأمن القومي الأميركي من تزايد عدد الدول التي ترفض في إفريقيا وآسيا الانضمام إلى التحالف الأميركي الغربي ضد روسيا، وكان مركز أبحاث «تشاتام هاوس» البريطاني قد استنتج في دراسة نشرها في موقعه في 20 شباط الماضي بمناسبة مرور عام على موضوع أوكرانيا أن «معظم دول العالم امتنعت عن الاصطفاف إلى الموقف الأميركي- الغربي نفسه ضد روسيا رغم أن شراكتها مع روسيا تشكل حرجاً لها، وهذا يدل على وجود أغلبية دول غير منحازة للغرب في هذه الحرب».
وفي دراسة استطلاعية قام بها «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» في 22 شباط الماضي تحت عنوان «ملخص سياسي» تبين منها أن «معظم شعوب العالم غير الغربية، تفضل نهاية سريعة للحرب التي تشن على روسيا في أوكرانيا حتى مع تقديم تنازلات لروسيا».
وذكر المجلس أن «54 بالمئة أعربوا عن هذا الرأي في الهند وكذلك 48 بالمئة في تركيا و44 بالمئة من داخل روسيا و42 بالمئة من داخل الصين و30 بالمئة من دول الاتحاد الأوروبي و22 بالمئة من البريطانيين و21 بالمئة من الأميركيين».
ورأت أغلبية كبيرة أن «نشوء نظام عالمي متعدد الأقطاب هو الاحتمال الأقوى المقبل للتغلب على النظام العالمي الأميركي أحادي القطب»، وهذا يعني أن معظم شعوب العالم وخاصة فيما تشكله من عدد سكان أكبر وقدرات جيوسياسية وعسكرية تقليدية ونووية تضاهي قوى الغرب، يجمع بينها هدف واحد هو التخلص من النظام العالمي الأميركي – الغربي والعمل على بناء نظام متعدد الأقطاب حتى وإن كانت هذه الشعوب لا يجمعها إطار اتحادي مشترك في القارات الثلاث على غرار الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يؤكد أن الغرب لن يكون بمقدوره حشد كل دول العالم ولا معظمها ضد روسيا والصين وحلفائهما إلى جانبه، لأن معظم هذه الدول ستشكل في موقفها هذا وفي عدم انحيازها للغرب جبهة واحدة تحقق لها هدفاً يعبر عن مصالح شعوبها التي لم تنس ما فعلته قوى الاستعمار الغربي والأميركي بها من جرائم في القرنين الماضيين ما زالت نتائجها بادية للعيان حتى الآن في إفريقيا وآسيا وأوروبا، وبخاصة حين ترى جميع الشعوب أن ما يوحد بين دول مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان التي هزمت في الحرب العالمية الثانية من جهة ودول أوروبا الغربية والولايات المتحدة وحلفائها من الجهة الأخرى، هو اقتسام استعماري للدول بعد أن خاض الفريقان حربين عالميتين الواحد ضد الآخر للغرض نفسه.