Site icon صحيفة الوطن

وظيفة فيزياء.. أولادنا يجبروننا على فساد ذواتنا

لم تستطع الأمُّ الحنونُ كبح دموعها بعدما رأت علاماتِ الصفعة الحمراء على وجه ابنها الأبيض الوردي وهو عائد من مدرسته الثانوية قبل انتهاء الدوام مطروداً منها، لتسأله بلهفة عن السبب، فيقص عليها ما حصل له مع أستاذ الفيزياء الذي ضربه ضرباً مبرحاً عقاباً له على نسيانه حل الوظيفة. لكن خوف عماد كان أكثر إن علم أبوه بما حصل، فهو ذلك المدرس المتقاعد الذي تشهد له وزارة التربية على مدار عقود بالأداء المتميز والإخلاص في العمل، فكيف له أن يخبرَه بأنّه قد طُردَ من المدرسة بسبب نسيانه حل الوظيفة؟؟، وبأنه لا يمكنه الدخول إليها مجدَّداً إلا معه؟؟. لكن الأم خفّفت قليلاً من خوف ابنها، فلم تقل لزوجها عندما كانا جالسين معاً مساءً سوى أن عليه الحضور غداً إلى مدرسة ابنه، ليلتقيَ بمديرها، الأمر الذي جعل الأبَ يستغرب ذلك الطلب، وهو الأعلم بكواليس المدارس، وأنه لابد أن ثمة مشكلة كانت السبب في استدعائه، فنادى ابنه بصوت غاضب ليستعلم منه الخبر، لكن عماداً كان في ضيافة جدته كما زعمت أمه، بعد أن قامت بإبعاده تلك الليلة عن الساحة اتقاء لشرٍّ محتمل بين الأب وابنه. وفي صباح اليوم التالي صرخ الأب من غرفته منادياً ابنه ليسأله عن سبب الاستدعاء، لكن الابن كان قد سبق أباه مغادراً بتوصية من أمه، وعند التقائهما معاً عند باب المدرسة فرّ الابن مسرعاً إلى صفه من دون أن يكلم والده. همهم الأب متوعداً ابنه ثم تابع خطاه نحو مكتب مدير المدرسة. وما إن التقى المديرُ بأبي عماد حتى وقف بما يشبه الاستعداد مرحباً به بحرارةٍ ومنادياً إيّاه بالمعلّم تقديراً واحتراماً لتاريخه التربوي الطويل ما جعل روح الوالد تنتعش كثيراً بالرّغم من أن سمْعَه المتراجع لم يكن ليسعفه كثيراً في سماع كلِّ كلماتِ التّرحيب والتقدير. وما إن انتهت كلمات الترحيب حتى فاجأه المدير بخبرٍ صاعق عن السبب في طرد ابنه، وعن كسلِه في مقرر الفيزياء، وعن إهمالِه لوظائفِه اليوميّة، وأنّ أستاذ الفيزياء سيأتي في الحال ليخبرَه عن وضع ابنه الدراسي بالتّفصيل. رنَّ المدير الجرس لاستدعاء عماد من صفِّه، وكذلك ليحضرَ أستاذ الفيزياء، وما إن حضرَ الاثنان حتّى وقف عماد قرب بابِ الغرفةِ وقد سرت في دمه قشعريرةُ الخوف والهلع، بينما صار أستاذ الفيزياء يصرخ بأقصى طاقته أمام الأب مدّعياً بأنّ عماداً طالبٌ كسول، ولم يُرَبَّ كما يجب. لم يصدّقِ الوالدُ ما سمع من معلم ابنه، وشعر بأنّ مصيبةً كبرى حلَّت عليه، فهو معلّمٌ قدير يعرفه القاصي والداني ويأتي ذلك الأستاذ فجأة فيهينه إهانةً بالغةً عندما وصف ابنه بقلّةِ التربية، فما كان من عينيه إلا أن جحظتا، وشفتاه ارتجفتا، ثم نهض عن كرسيِّه وهجم على ابنِه ينوي ضربَه، لكنّ الابنَ اختبأ خوفاً وراء أستاذِ الفيزياء، الذي أظهرَ قسوةً بالغةً حين أخذ يدفعُ بالابن إلى الأمام ليتلقَّى وحده صفعاتِ أبيه بعد أن نال هو معظمها، إلى أن فصلَ أخيراً المديرُ بين المتعاركين، وانتهتِ المسألةُ عند ذلك الحد.

في الواقع لم يفهم أحد ما، سواء في البيت أم في المدرسة، سبب كره عماد الشديد للفيزياء، فلقد كان يصيبُه ما يشبهُ الرّهابَ كلّما حان وقتُ الدرس للصّفِّ الحادي عشر، بالرّغم من تفوقه في باقي العلومِ. إلا أن السبب كان بكل تأكيد هو أستاذ الفيزياء، الذي كان شخصاً جبّاراً عتيّاً، يُفزعُ طلابَه بشدّةِ قسوتِه وعصبيّتِه البالغة. ففي ذلك اليوم المشؤوم الذي تسبب بطرد عماد من درسه كان الأستاذ قد دعاه دونَ سائرِ الطلّاب ليحلَّ على الملأِ الوظيفةَ كتابةً على السبّورة، لكنّ عماداً وقفَ حينها ساكناً بلا حراك والخوفُ قد اجتاحَ كيانَه، فانقبضت أساريرُه وبلعَ ريقَه بصعوبةٍ، فهو لم يكن ليدري شيئاً عن تلك الوظيفةِ، فيسألَه الأستاذ بصوتٍ مزلزلٍ إن كان قد حلَّها في البيت، فيجيبه عماد مرتبكاً بأنّه قد نسي حلَّها، فما كان من الأستاذ إلا أن صفعَه على وجهِه صفعةً طرزَت شكلَ أصابعِه كاملةً على خدّه، ثمّ طردَه من الصفِّ بما يشبه الرّفسَ، طالباً منه أن يبلغَ والده بضرورةِ المجيءِ غداً إلى المدرسة ليلتقيَ به عند المدير، وأنّه لا يمكنه أن يدخلَ المدرسة مجدّداً إلا بحضورِ والده.

ثمَّ دارتِ الأيام وتخرّجَ عماد في الجامعة بأفضلِ الدرجات، وجرى تعيينُه لاحقاً معيداً باعتباره من الأوائل، ثم تابع دراستَه في الخارج، وحضّر شهادةَ الدكتوراه، وأصبح مدرّساً في إحدى كلّيات الجامعة. وذات صباح تلقّى الدكتور عماد مكالمة هاتفيّةً من مكتبِ مسؤولٍ مهمٍّ للغاية في القطاع التربويّ تطلب حضورَه لمقابلةِ ذلك المسؤول.

حضر الدكتور عماد إلى مكتب المسؤول التربوي الذي رحب به أشد ترحيب ثم عاجله بالقول إن ابنه طالب جامعي قد رسب عدة مرات في المقرر الذي يقوم بتدريسه، وقد صعُبَ عليه كثيراً دراسةُ وفهمُ ذلك المقرّر، طالباً المساعدة في ذلك.

لم يُخيّبْ عماد ظن المسؤول قائلاً إن مكتبه مفتوحٌ دائماً، وما على ابنه إلا المجيءُ لعنده، وتحضيرُ أسئلتِه التي تعذَّرَ عليه فهمُها، وأنه سيقومُ بالإجابة عنها والشرحِ له إلى أن يتقنَها. ردَّ المسؤول بشيء من الارتباك قائلاً: إن المقرّرَ قد اقترب امتحانُه، وهو – يقصد ابنه – يعمل في التجارة، وليس لديه الآن الوقتُ الكافي ليذهبَ إلى الكلّية. همهمَ عماد ثمّ قال مبتسماً: والله هذا ما أستطيعُ فعلَه الآن، ربما إن لم ينجحْ هذه المرة فيمكنني بعد انتهاءِ الامتحانات أن أقومَ مجدداً بتدريسِه وحده في المكتب على وقته، ومتى يشاء.

زاد ارتباكُ المسؤول أكثر فأكثر لكنّه استطردَ قائلاً: لعلّك لم تفهمني.. ألا يمكنُ أن تحضرَ مثلاً إلى بيتي وتقومَ هناك بشرحِ المهمِّ من الأسئلةِ في ذلك المقرّر؟؟، وسأرسلُ لك السيارةَ تُقِلّكَ من حيثُ أنت، وتعودُ بك إلى حيث ترغب.

قطّب عماد حاجبَيه وهو ينظر في الأفقِ عبر النافذةِ الجانبيّة ثمّ قال للمسؤول: لعلك لم تتذكرني يا أستاذي الغالي!! أما أنا فقد تذكرتك جيداً.. لقد كنتَ معلّمَ الفيزياء في ثانويّتِنا، وقد صفَعْتَني ذاتَ يومٍ صفعةً بقيَت كالوشمِ على خدّي أسبوعاً لأنّي لم أكتبِ الوظيفةَ، ثمّ أكملَ والدي عليَّ فعلَ الضّربِ في المنزل إلى أن تخلخلَت عظامي وكنتُ حينها أنوي… وإذ بالمسؤول يقاطعُ عماداً وعلاماتُ الحرجِ الممتزجِ بالإحباط قد بدت احمراراً على وجهِه، فلم يدعْه يكمل حديثَه، ثمّ نهض عن كرسيِّه قائلاً وهو يتنهّد:

هكذا هيَ الدّنيا يا صديقي العزيز.. نربِّي أولادَ النّاس على صلاح النَّفْس ونماءِ العقل ليأتيَ أولادُنا فيجبرونا على فسادِ ذاتِنا، وخرابِ وعْيِنا.

وما إن أنهى كلماتِه تلك حتى نظر إلى ساعةِ يدِه مدَّعِياً بأنّ لديه اجتماعاً طارئاً، وغادر الغرفةَ من دون أن يودّعَ الضّيف.

لحظاتٌ ويفتحُ الحاجبُ البابَ لعماد معلناً انتهاءَ الجلسة.

Exit mobile version