Site icon صحيفة الوطن

الأم الكبرى

| سحر أحمد علي الحارة

أثناء دردشة خاصة بيني وبين صديقة وأم حنون «د. طليعة جواد».. بدأت ذكرياتها تنضح بعبق الماضي وأصالته ثم بدأت تعاتبني على تقصيري في الكتابة لها وكان العتاب رائعا على قدر الشوق والمحبة فهي تعتبرني ابنتها الغائبة… فبدأت حبي مع اعتذاري بأن عصبا يحكم يدي إلى عنقي يمنعني غالبا من الكتابة فقد أمست ترهقني وتتعب أصابعي المرتجفة.. هنا قالت لي: (اللـه يردلك تعب كل إصبع بكلمات الناس تصفق من عظامها).
وقالت: (يجب على الكتابة والقلم أن يتركا فيك أثرا ولو كان أليما..) قلت لها: و«لكن الوجع والألم لا يفارقاني» فقالت: «أنا كنت طبيبة أسنان في زمن لم يكن فيه تقنيات هذا العصر وبدأت أزاول مهنتي منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.. وقد تركت كلابات قلع الأسنان أثرا بيدي وما يزال إصبعي ملتويا بسببها ولكنني مسرورة جداً لأن هذه المهنة وعبر إخلاصي لها أعطتني الاسم والمجد والاحترام.. وجعلتني أفتخر بعطائي لوطني وصدقي لمهنتي ولو أن هذه المهنة قد أخذت بضعة من إصبعي، الأمر الذي قد تتفاداه وتتحاشاه صورة الأنثى هذه الأيام.
لقد لفت انتباهي وقلبي هذا الأسلوب من طبيبة عريقة، أسلوب ساحر في دمج الأخلاق مع الفن مع العمل مع الحكمة.. ولعل هذا ليس بغريب عليها.
وربما كان نتيجة تأثرها بالمبدعين الذين التقت بهم كمثل «نزار قباني» و«كوليت خوري» أثناء زيارتهما لكلية الطب حينها وربما اقتبست من شعلة عبد السلام العجيلي صديق العائلة والمقرب من زوجها.. وربما كان لقاؤها المؤثر مع الأديبة «غادة السمان» جعلها تؤمن أن العمل هو أكثر الألوان رسما للشخصية.. إن هذه الطبيعة المميزة والاجتماعية والوطنية منذ بداية تعيينها في مدينة الرقة وذلك على الرغم من المشقة المترتبة عن بعد مكان التعيين عن مكان النشأة.. وهناك كانت كلما زادت أصابعها انطواء والتواء زادت همتها إخلاصاً، وكلما زاد همها زادت همتها، شأنها شأن بنات جيلها اللواتي كن يتحدين الظروف والعوائق.. ومنهن أعز الصديقات لها مثل «عايدة» و«منتهى» ابنتي سلطان باشا الأطرش اللتين كانت تجمعهما معها علاقة وثيقة جعلتها تلبي دعواتهما إلى السويداء للقاء المطول والكلام وتبادل الهم والهموم، وفي جو العائلة وتنوع روادها وزوارها لفتها أكثر من مرة إبداع فيلمون وهبي وزكي ناصيف، وتميزهما وبخاصة في طريقتهما في العطاء الأدبي والإنساني.
أيتها الطبيبة العريقة والأديبة المرهفة والأم الحنون.. أن نضالك في مهنتك وإخلاصك لها جعلني ألتفت الآن إلى كل مناضل في تلك الحرب التي تعصف ببلدنا وإلى كل مقاتل وجندي باسل تركت الحرب في جسده أثرا لم يزده إلا إصراراً على الصمود وافتخارا به، فمنهم من بترت قدمه ومنهم فقد نظره ومنهم من فقد إحدى يديه.. ولكن ذلك يذكرهم ويذكرنا بعظمة موقفهم وعلو همتهم.
إنه جيل الأمهات جيل «د. طليعة جواد» حماها الله وأمثالها.. وجيل الأولاد والأحفاد ممن ساروا أوفياء لأمهاتهم وللأم الكبرى «سورية خاصة».. و«الشام عامة» ولكن كيف هي الشام؟
يجيبنا شاعر الشام اليوم.. أبكيك يا شام. قلبي مثخن، قلمي قفر… ألا أحد في الشام يبكيني؟

Exit mobile version