Site icon صحيفة الوطن

إشكالية يطرحها انقلاب النيجر

لا يختلف تاريخ النيجر الحديث في أي من تفاصيله عن تاريخ جيرانه الأقرب في «أوكواس»، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بل ولا عن تاريخ جيرانه الأبعد في القارة السمراء التي تساقطت دولها منذ أواخر القرن السادس عشر، بداية حملات «التبشير» التي وصلت ذروتها أواخر القرن التاسع عشر بعد أن حملت باريس لقب «عاصمة النور» في أعقاب انتصار الثورة الفرنسية العام 1789، كما الثمار التي ذبل عود التصاقها بالغصن الحامل لها محتماً حدوث الفعل بيد «الجيران» على الضفة الأخرى من البحر المتوسط الذين كانوا يملكون «البسط والحصائر» الكفيلة بالمحافظة على سلامة الثمار، ولعل النصيب الأكبر كان للفرنسيين الذين بسطوا سيطرتهم على 26 دولة من دول القارة أي ما يقرب كثيراً من نصف عدد دولها البالغ 53 دولة.

عملت فرنسا خلال سيطرتها طويلة الأمد على نصف القارة على الإمساك بالنسج الثقافية والفكرية كفعل يفضي بالضرورة لإمساكها بشرايين الثروات والمعادن من النوع طويل الأمد، جرى ذلك من خلال إنشاء المراكز الثقافية والمدارس والجامعات التي راحت تنشر أفكاراً خادمة للمشروع، وتؤسس لنشوء منظومة سياسية اقتصادية فكرية قوامها النخب من خريجي هذه الأخيرة، وتلك المنظومة، قادرة على حسم النتائج التي ستقود إليها أي انتخابات ستجري في ظل تلك التركيبة، الأمر الذي نجحت فيه بدرجة لافتة قبيل أن تهب رياح عاصفة نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي من حيث النتيجة، ستفسح المجال نحو وضع حد لهذا الأخير ليس حباً في نيل تلك الشعوب لحريتها بل إفساحاً لصعود قطب غربي جديد ارتأى أن أسلوب البريطانيين والفرنسيين في «النهب» بات من النوع الذي عفا عنه الزمان، ولا مناص من استحداث بديل جديد عنه، والشاهد هو أن «عاصمة النور» لم تستسلم تماماً لتلك «الهزيمة» التي بلغت ذروتها العام 1956 وإنما راحت تحث السبل بأدوات أخرى على نحو ما فعلت عند تأسيس «الفرنكفونية»، المنظمة التي تجمع الدول الناطقة بالفرنسية، شأنها في ذلك شأن القوى التي إذا ما هزم مشروعها المخاض بأدوات معينة راحت تحاول بأدوات أخرى.

شكل الانقلاب الذي نفذه عسكريون بالنيجر يوم الـ 26 من تموز المنصرم ضد الرئيس محمد بازوم، تتمة لما جرى في مالي شهر أيار 2021، وفي بوركينا فاسو شهر كانون ثاني من العام الذي يلي هذا العام الأخير، والانقلابات الثلاثة آنفة الذكر شكلت ضربة موجعة لفرنسا التي كانت تسيطر، عبر شراكاتها مع النخب الحاكمة فيها، على مقدرات تلك البلدان، وعبر تلك الشراكة استطاعت التأسيس لمنظومة سيطرة و«نهب» لعبت دوراً كبيراً في تدمير كل «نويات» التنمية التي راحت تظهر هنا وهناك، وحالت من دون قيام «الدولة» بالمعنى الحقيقي لتلك الكلمة، بل وشكلت مناخات، عبر الفعلين الأخير والذي سبقه، إلى ذروة أفكار التطرف الذي شكل صعوده تعبيراً عن رفض تلك التركيبة التي راحت تصدر صورة للحكام هي أقرب لـ«الوكلاء» الحاملين لتوكيل «خاص» وليس «عاماً»، وعليه فقد كان الدور الذي راحت تلعبه «عاصمة النور» هو تعميم الظلام والخراب في بقاع «القارة السمراء»، بينما الذريعة أن تلك البقاع باتت تدار من خلال «صناديق الاقتراع» التي تمثل «درة التاج» للنظم «الديمقراطية» وفق المفهوم الغربي لها.

هذه السردية السابقة تطرح إشكالية مهمة وهي تتلخص في درجة التفضيل، أو حتى المشروعية التي تقوم على اعتبارات عديدة ليس منها صناديق الاقتراع التي يجب أن يسبق اللجوء إليها تغييرات اقتصادية واجتماعية تستطيع من خلالها الأغلبية، التعبير عن نفسها إذا ما أريد لنتائجها أن تكون حقيقية، التي تتمتع بها كل من «الأنظمة المنتخبة» و«العسكر الانقلابيون»، والسياق هنا محصور بالتجارب التي عاشتها الدول الإفريقية منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي فصاعداً، فـ«الأنظمة المنتخبة» كلها تقريباً، مع استثناء ناصر 1952، حنثت بوعودها التي قدمتها لشعوبها عشية اعتلائها للسلطة، بل ومارست سياسات، كانت خطوطها العريضة ترسم بريشة فرنسية، قادت نحو تداعيات خطرة على بنيان مجتمعاتها وكينونة دولها، ومن حيث النتيجة كانت تلك الأنظمة تعبيراً عن مصالح خارجية كانت لشركاتها قوة ضاربة للتلاعب في استقرارها إذا ما فكرت في القفز فوق تلك المصالح، في حين كانت الانقلابات العسكرية أقرب إلى التعبير عن آمال شعوبها والشاهد هو أن العديد من تلك الانقلابات، كان قد حظي بتأييد شعبي برز عبر العديد من المؤشرات، ولا تمثل التظاهرات التي عمت شوارع نيامي، عاصمة النيجر، في أعقاب انقلاب الـ 26 من تموز الماضي استثناء في هذا السياق، حيث ما سبقها في مالي وبوركينا فاسو كان أشد وضوحا.

في الدول «العالمثالثية» لا تقاس الأنظمة وتصنيفاتها، بالطريقة التي وصلت بها إلى الحكم، بل من حيث قدرتها على تجيير السلطة ووضعها في سياقات قادرة من خلالها على فك «الأساور» التي في المعصم، والتي غالباً ما تحد من حركته بدرجة تجعله غير قادر على المهمة الأساس المنوطة به وهي رفع «اللقمة» من الطبق إلى الفم.

هذا الميل الشعبي نحو الانقلابات هو تعبير عن الانسداد الذي لم تستطع «الأنظمة المنتخبة» فتحه، الأمر الذي وضع هذه الأخيرة في أحد موضعين الأول هو أن تصبح معوقة لحركة المنظومة الاقتصادية، والاجتماعية بالضرورة، والثاني أن تصبح سداً أمام «الأماني» التي يختزنها الشارع في ذاته، وهو يأمل من خلالها الانتقال بالحالة الوطنية إلى درجات عليا على السلالم التي توصل إلى عتبة السيادة التامة.

Exit mobile version