يحار المرء كثيراً في أولئك الذين يذهبون إلى التفاصيل، ويضيعون البوصلة والاتجاه، وخاصة أن ذاكرة البعض تبدو قصيرة بحكم الأحداث والأوجاع والآلام والجوع والبرد، والألم الذي يعانيه السوريون جميعاً، على كامل جغرافيا البلاد، إذ إن ما يمارس ضدنا كسوريين هو إبادة سياسية، وهو المصطلح الذي استخدمه السفير الفرنسي السابق ميشيل رامبو في كتابه المهم «عاصفة على الشرق الأوسط الكبير»، يضاف إليها إبادة اقتصادية معيشية حياتية، قد يعجز الكثير من الناس عن مواجهتها في أي مكان آخر في العالم، ولكن لا خيار أمامنا سوى الاستمرار في هذه المواجهة مهما بدا أمامنا الطريق وعراً وصعباً ومعقداً، وقد يكون كالح السواد، ومهما بدت التناقضات والمشاهد اليومية تدعو لليأس والقنوط، ذلك أن أعداءنا وخصومنا لن يرحمونا ولا لحظة، لا بل سيمارسون الإبادة الكاملة ضدنا، السياسية والاقتصادية والاجتماعية الروحية، ومن يعتقد أن الحل بنشر البوستات ومهاجمة هذا الطرف أو ذاك، والمطالبة بتغييرات هي مطلوبة ومحقة، لكنها لن تغير من مخططات الأعداء قيد أنملة، وللتذكير فقط، عُقد اجتماع في 12 تشرين الثاني 2012 في الدوحة خلال تشكيل ما سمي بالائتلاف السوري المعارض العميل، قاد هذا الاجتماع رئيس وزراء ووزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم المكلف أميركيا وإسرائيلياً وغربياً بتلك المهمة، حيث وقعت القوى العميلة من السوريين آنذاك ما عرف باسم «بروتوكول الدوحة» الذي سماه ميشيل رامبو بـ«كامبد ديفيد السوري»، وتضمن بروتوكول الدوحة هذا الذي لم ينكره أي من منافقي الثورة المزعومة، والقوى العميلة ممن سمّوا أنفسهم «معارضات» ما يلي:
– تخفيض عدد أفراد الجيش السوري إلى 50 ألف جندي.
– التوقف عن المطالبة بالجولان المحتل، وتوقيع اتفاقيات سلام (استسلام) برعاية أميركية.
– تدمير ترسانات الصواريخ، والأسلحة السورية المختلفة، أسوة بما حدث في العراق، بإشراف أميركي.
– إلغاء أي مطالبة سورية بلواء إسكندرون، والتنازل لتركيا عن بعض المناطق الحدودية في حلب وإدلب.
– إلغاء كل المعاهدات والاتفاقات الموقعة مع روسيا والصين وإيران.
– وقف دعم حركات المقاومة في فلسطين ولبنان (حزب الله).
– السماح بمد المياه من تركيا إلى الاحتلال الصهيوني.
– تحول النظام السياسي في سورية إلى نظام إسلاموي ينهي الهوية العروبية، والدور الذي تلعبه سورية على صعيد المنطقة ككل.
– السماح بمد أنبوب الغاز القطري باتجاه تركيا، ثم أوروبا عبر الأراضي السورية.
هذه التعهدات التي وقعت عليها كل أطراف ما يسمى معارضات سورية مقابل وصولها للسلطة، هي نفسها ما كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول قد أتى به ضمن ورقة واحدة إلى الرئيس بشار الأسد صيف عام 2003 بعد احتلال العراق، وإسقاط النظام فيها، أي إنها لم تتغير ولن تتغير، وسوف يستمرون بالعمل على تحقيق الكل أو البعض منها بهذه الطريقة أو تلك، وهذا لن يحصل طالما أن الشعب السوري يتمسك بثوابته، ومبادئه على الرغم من الضغط الذي أصاب هذا الجسد نتيجة عمليات الإبادة التي تتم على مختلف الصعد.
إن أهداف الخصوم والأعداء لم تتغير، لكنها تُنفذ وفق سيناريوهات مختلفة، كلما فشل سيناريو، أطلقوا سيناريو آخر، وهكذا فالحرب مستمرة وصولاً لما يمكن أن أسميه «حذف وشطب سورية عن الخريطة»، وتحطيمها وتفكيك مؤسساتها وجيشها، وتدمير اقتصادها بشكل ممنهج، وإلا كيف يمكن لعاقل في الأرض أن يقنعني أن الاحتلال الأميركي في الجزيرة السورية من أجل محاربة داعش، وليس من أجل قتل وإبادة السوريين معيشياً واقتصادياً، وحرمانهم من حوامل الطاقة، وثرواتهم الزراعية، ومن المياه والكهرباء، أو كيف يمكن أن نفهم أن تركيا تحتضن كل هذه المنظمات الإرهابية وترعاها، لا تنهب، ولا تسلب ثروات سورية الزراعية في إدلب وريف حلب، ولم تشارك في تجارة النفط المسروق مع الأميركيين وغيرهم، ثم كيف يمكن أن نتجاوز حجم العقوبات المالية والاقتصادية الهائلة على سورية وشعبها، ألم يكشف أحد الصحفيين في موقع «غري زون» قبل أيام ماذا يحضر بعض الذين يحملون جنسيات سورية وأميركية لشعبهم، وبلدهم من عقوبات ستشمل حتى الأوكسجين الذي نتنفسه؟
أحاول أن أنعش الذاكرة قليلاً لأقول إن المستهدف هو كل السوريين، فسورية التي نهش من لحمها الفرنسيون والإنكليز منذ عام 1916 حينما منحوا أراضي للجمهورية التركية باتفاقية لوزان الثانية 1923، ثم لواء إسكندرون في الثلاثينيات، وبعدها اقتطعوا لبنان، ولاحقاً المشروع الصهيوني في فلسطين، ثم إمارة شرق الأردن، وفيما بعد الجولان المحتل، وصولاً لما يجري الآن من محاولات أخيرة لتقطيعها بين شمال شرق، وشمال غرب تحت عناوين عديدة، آخرها إحياء مشروع الجنوب، وكل ذلك حماية لكيان الاحتلال الصهيوني الذي لن يحيا ويستمر إلا إذا أحاطته كانتونات طائفية، مذهبية، عرقية تتقاتل مع بعضها بعضاً بين فترة وأخرى ليتدخل هو كوسيط بينهما، وهكذا دواليك حيث ندخل في نفق حروب المئة عام التي لن تنتج لأحد سوى الموت والدمار والخراب، والاقتصاد المشلول والمعطوب والمرتزق، الذي لن يستطيع أن يطعم نفسه، ولا غيره، وسيتحول إلى كانتون للمرتزقة والمنتفعين والعملاء، وهاكم شمال العراق الذي طبلوا وزمروا له تحت عنوان المظلومية الكردية، وإذا به يتحول إلى مكان للازدهار الشكلي، وللصراعات بين البارزاني والطالباني، وبين أربيل والسليمانية، حتى وصفته إحدى المجلات الأميركية بالكانتون الكرتوني، وهو الأمر المطلوب تنفيذه في سورية عبر خلق كانتونات كرتونية عميلة ساقطة في الجغرافيا والاقتصاد والمجتمع، ولو عدنا قليلاً بالذاكرة لوجدنا أن أجدادنا رفضوا هذا المشروع الفرنسي، بتقسيم سورية طائفياً، وعلم الانتداب الفرنسي الذي لوحوا لنا به منذ بداية الأحداث لم يكن بريئاً، إنما كان إشارة أولى لهذا المشروع الخطير القائم والمستمر.
إن محاولة دبّ الرعب، وتخويفنا من الانتشار الأميركي، ومشروع وصل الجنوب مع الشمال الشرقي، وتحريك الأوضاع في السويداء ودرعا من خلال إطلاق خلايا مسلحة، ودعم إعلامي واضح من القنوات الإعلامية في الدوحة وتركيا، مع حملة ممنهجة في وسائل التواصل الاجتماعي، لن تجعلنا نفقد البوصلة عن الهدف الحقيقي الذي يعملون عليه، وهو إبادة الشعب السوري، وتوقيع كامب ديفيد سوري، ينهي موقع سورية ودورها وهويتها، ويقتل فنها وأدبها واعتدالها وتجانس أبنائها، باتجاه إنتاج أنماط مشوهة من الحجر والبشر، لا تمت لهذه الأرض وتاريخها، وتراثها بشيء.
أدرك كغيري بأن الظروف قاسية جداً، وبأن لدينا ثغرات، ونقاط ضعف، ولدينا فاسدون أعتقد بأنهم طابور خامس خائن وعميل، ومع كل ذلك وكل هذه الآلام، والمخاض العسير، فإنني أرى ضوء الأمل في نهاية هذا النفق المظلم، الذي يريد إيصالنا لليأس والقنوط، ويريد منا أن نطلب من أعدائنا الرحمة، والمغفرة، وهذا لم يحصل، ولن يحصل، وأما أولئك الذين يذرون الرماد في العيون تحت عناوين الجوع والفقر والحرمان، فأعتقد أن وعي الناس في النهاية سيصل إلى نقطة أن الحل ليس هكذا، فالذي لديه رشاش، وطلقات بآلاف الدولارات لقطع الطريق، وتعطيل حياة الناس، بإمكانه أن يبيعه ليساعد من يدعي الدفاع عن حقوقهم، ومظالمهم، فهؤلاء وإن كنا مع مطالبهم، كما كل السوريين في كل مكان، ونحن منهم، ندرك ونقرأ أن من يمولهم ويديرهم لن يوصلهم سوى إلى الهاوية، فالأمر يحتاج إلى العقل، والتبصر، وأعيد وأقول رأس الأفعى في التنف، وأُسُ مصائبنا هو أميركا واحتلالها، وحينما سيشعر الأميركيون بالخطر سيبيعون كل عملائهم الذين يستقوون بهم، كالعادة.
أما الفاسدون الذين ينهبون ويسرقون قوت شعبهم، ويهربون أموالهم للخارج، فمحاسبتهم هي بداية الخلاص، لأنهم هم أنفسهم الذين انقلبوا بداية عام 2011، ومستعدون الآن لفعل ذلك ثانية، وهؤلاء يدافعون عن مصالحهم، وليس وطنهم، لأن أحقر الناس هم أولئك الذين يسرقون شعبهم في أصعب الظروف وأكثرها قتامة، وهؤلاء هم حصان طروادة في الداخل، وهم لا يريدون أن تنتهي مأساتنا لأنهم متناغمون أو متفقون مع قوى العدوان الفاشي على بلدهم.
مع كل ذلك أثق بوعي السوريين الوطني، والدروس المستخلصة التي تعلمناها طوال 13 عاماً، كما أعتقد أن الخلاص من الواقع المعيشي الصعب ليس فردياً بل من خلال استنهاض قوانا المجتمعية ووحدتنا وتكاتفنا، وإدراكنا لما يُنصب لنا من فخاخ في كل مرحلة من مراحل نضالنا الوطني.
وأما من يحلمون بـ«كامب ديفيد سوري» نقول لهم: خسئتم لن تمروا.