Site icon صحيفة الوطن

المثقف بين الانتهازية والواقعية

| محمد الحوراني

من المثقف وما الدور الذي يجب عليه القيام به تجاه أمته وقضاياها؟ ولماذا يتراجع المثقف عن قناعاته في الملمات والنوائب؟ هل المثقف هو ذلك الشخص الذي يتعامل مع الكلمات وينمق الحروف، ويبدع في صياغة الجمل، أم إنه الحامل للقيم والأخلاق والفاعل في محيطه ووسطه الاجتماعي بعيداً عن التعصب والتحزب الأعمى؟ أم إنه ذلك المناضل المكافح المشتغل على الوعي المجتمعي المنضبط بمصلحة الأمة والوطن. يرى إدوارد سعيد أن المثقف: هو من يعمل على التمسك بالقيم العليا، كالعدالة والحرية والانحياز إلى الفقراء والاستقلال التام عن السلطة السياسية؛ لأن الارتباط بالسلطة السياسية أو الدينية أو القبلية، هو بمنزلة القيود التي تحد من التفكير وتوجه مسار أفكار المثقف. بمعنى أن المثقف يجب عليه أن ينأى بنفسه عن مفاسد السياسة والمصالح الشخصية، وأن يكون في صف المستضعفين من الشعب والمقهورين؛ وهو الذي يعمل على مقارعة الاستبداد أياً كان لونه أو نوعه، أما إذا التفت المثقف إلى نفسه وكرس جهوده وثقافته في سبيل مصالحه الشخصية أو في سبيل خدمة الحاكم السياسي أو أي حزب أو حركة أو جماعة فهو مثقف انتهازي، وفاقد للأهلية والثقة.
ومن ثم لا يمكن بأي حال من الأحوال الاطمئنان إليه. بل إنه يصبح مدعاة للسخرية والتهكم من فئات الشعب والناس أجمعين. وحسب «ميشيل فوكو» فالمثقف الحقيقي هو الذي يجسد ضمير الإنسان، الذي يوقظ فيه الوعي، ويبشر المجتمع بالحقيقة، وهو ما أطلق عليه اصطلاح «المثقف الشمولي» حامل رسالة التغيير.
وحسب المفكر الإنثروبولوجي البريطاني تايلور (أواخر القرن الـ19) فإن المثقف هو «ذلك الكل المعقد، الذي يتضمن المعرفة والقصيدة والأخلاق والقانون والتقاليد، وكل ما يكتسبه الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع إنساني». وفي حديثه عن الثقافة ومكوناتها ومحدداتها يرى المفكر المعاصر قسطنطين زريق أنها «نمط من الحياة يتميز بخطوط وألوان من التقدم والرقي»، والمثقف مثلما ذهب إليه زريق في حاجة إلى معرفة وعقلانية والتصاق بقضايا المجتمع.
وإذا كانت هذه هي بعض أركان الثقافة والمثقف الذي يجب العمل عليه، إلا أن الواقع مخالف لهذا تماماً، فالمثقف، في الأغلب، شخص انتهازي متردد لا يعنيه، في حال من الأحوال، وضع حد للواقع الثقافي والمعرفي المتردي، بقدر ما يبحث عن نفسه وعن مكتسباته، كما أن لملمة التشرذم المنتشر في دواخلنا ومجتمعاتنا هي من آخر ما يمكن أن يهتم به، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تمكن العدو منا ثقافياً ومعرفياً، ذلك أن ثمة رغبة جامحة لدى الآخر بأن ننجر إلى تقاتل وتشاحن ثقافي ومعرفي يصرفنا عن القضايا النهضوية والمعرفية والتنويرية التي يجب أن تشغلنا، وأن ننشغل عن حراسة منجزاتنا الثقافية والحضارية والمعرفية، بدل العمل على تطويرها للإسهام في الحضارة العالمية، وبناء حضارة معرفية راقية تنافس حضارة الآخر وبنيانه الثقافي والمعرفي. وهذا لا يتم إلا باقتفاء أثر النهضويين الكبار في العالم العربي، ونشر أفكارهم ورؤاهم التنويرية في مجتمعنا العربي. بدل أن نشغل أنفسنا بإقامة حفلات الشتائم والإهانات لبعضنا بعضاً في الوسط الثقافي والمعرفي، بعيداً عن التأسيس لفعل ثقافي بناء وعمل نهضوي مؤثر. والحقيقة أن المثقف العربي سيبقى أسيراً للكثير من الصراعات الفكرية التي تبعده عن قضاياه الجوهرية وأموره المهمة ما دام مرتكساً في حالة الانفعال وردود الأفعال لأن هذه الحالة تدفع بالمرء إلى الدخول في معارك وأعمال لا تعتبر ذات أولوية في حياته، إلا أنه وانطلاقاً من تداعيات حالة الانفعال ينخرط المثقف في صراعات عبثية جانبية، من شأنها أن تشتت جهده وتجعله بعيداً عن أولوياته، كما تشغله كثيراً عن القضايا الجوهرية التي ينبغي أن يوليها العناية والاهتمام. ولذا فالمثقف العربي اليوم مطالب ولأسباب عديدة بتخطي حالة الانفعال إلى الفعل وهو ما من شأنه أن يؤهله نفسياً وعقلياً وثقافياً لممارسة دور أكثر إيجابية لمصلحة أمته ووطنه. والمثقف الحقيقي والفاعل في محيطه هو من يتجاوز كل القيود الواعية وغير الواعية على فعاليته الفكرية حتى يتمكن من ممارسة دوره الإبداعي، فالإبداع انتقال المثقف من حالة الانفعال واللهاث الفوضوي على المنجز الثقافي والمعرفي إلى الفعل والمشاركة في الإنتاج الثقافي الإنساني. فلنعمل على التخلص من المثقف الانتهازي، الذي يدعي حراسة المبادئ والقيم، التي يراها متحولة دوماً حسب مصالحه، ذلك أن المثقف الانتهازي من أخطر الشخصيات على المجتمع لكونه يعمل على تزييف الحقائق وتغييب الوعي الثقافي لدى المجتمع، فالمثقفون الانتهازيون يستغلون مستوى ثقافة المجتمع بأساليبهم وأطروحاتهم المتعددة والمغرقة في النرجسية والأنانية لتعويم أنفسهم على حساب القضايا الكبرى والمصيرية، وعندما نسبر أعماقهم نجدها سطحية وغير موضوعية، لا تجد فيها سوى كلمات أو عبارات منمقة لدغدغة مشاعر المجتمع، وتجميل الفكرة، أو الأفكار، التي يريدون زرعها في عقول الناس، وغايتهم في ذلك غاية تجارية ووصولية بحتة، فهؤلاء المثقفون الانتهازيون يمارسون ثقافتهم في إطار المقولة القائلة: الغاية تبرر الوسيلة.
ومن ثم فهم يغلبون مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة المجتمع، ولا يهتمون للمشهد الثقافي والمعرفي وإن هوى إلى القاع، لأنهم هم من يقتل المثقف الحقيقي والوطني، وهم من يؤسس للميليشيات الثقافية التي من شأنها أن تدمر الثقافة والفكر والفعل الحضاري المؤثر في مجتمعهم. إننا بأمس الحاجة لتأسيس نظام ثقافي عربي، يعتمد التحرر من العادات والتقاليد والرجعية التي تؤشر إلى التخلف، وهذا النظام الثقافي العربي لابد أن يعتمد التنوير الثقافي، الهادف إلى إحداث انقلاب في نمط التفكير العربي السائد وفي نمط الفعل الثقافي، ليتم العمل لاحقاً على تغيير المجتمع على أسس عقلانية، أسس من شأنها أن تحدث تغييراً في سلوك الإنسان، من خلال نشر العلم والمعرفة، ليتجاوز الوعي العربي انقسامه وحتى يتأسس الأفق العربي المعرفي والثقافي الجديد، البعيد عن احتمالات حروب النبذ والإقصاء والإنكار والاتهامات الرخيصة والسطحية.

Exit mobile version