Site icon صحيفة الوطن

إسكندر الرياشي … الصحفي التائه والشاهد على رشا الساسة والسياسيين

| شمس الدين العجلاني

روايات وقصص وحكايا سردها نقيب الصحافة اللبنانية إسكندر الرياشي «1888م-1961م» الذي ولد فقيراً ومات بعد أن عاش حياته «بالطول والعرض» وعلى طريقته الخاصة، وكان ساخراً بالفطرة، وخفيف الظل والدم منذ ولادته، والمرتشي والحرامي باعترافه!
قال الرياشي ما لا يجب أن يقال، وسمى الأشياء بمسمياتها، تقاضى رشا الدنيا، وقبض وقالها بالفم الملآن إنني أقبض من فوق الطاولة وهم يقبضون من تحت الطاولة!!
شكلت المرأة عصب حياة الرياشي الذي كان أشهر من كتب عن الجنس اللطيف.
إسكندر الرياشي السياسي والكاتب الساخر ظاهرة غريبة تحمل بين طياتها الظرافة والطرافة والسخرية والإبداع، ظاهرة مرت على تاريخ صحافتنا وحياتنا السياسية، ظاهره لن تتكرر أبداً.

الرياشي وأنسي الحاج
كان الرياشي يبالغ بنقده الفكاهي اللاذع، وسخريته عندما يتناول في حديثة السياسة والسّاسة. فيقول عنه أنسي الحاج، وأنسي هو أنسي لويس الحاج شاعر وصحفي وكاتب لبناني معاصر ولد عام 1937 م، وتوفي يوم 18 شباط لعام 2014 م بعد صراع طويل مع المرض، والده الصحفي والمتّرجم لويس الحاج، ويعتبر أنسي من روّاد «قصيدة النثر» في الشعر العربي المعاصر، ترك لنا ثراثاً كبيراً من الشعر والمقالة والكتب الأخرى، يقول أنسي عن الرياشي: «إسكندر الرياشي شيء آخر. إنه لا يتمسخر بل يضع حاله على الورق. إباحته لذاته هي المصدر، والسخرية فرع من هذا المصدر. طرافته أنه يتعرّى بالكامل، ويتحداك أن تجاريه. لم يُجاره أحد من أهل الصحافة ولا من أهل الأدب. «اكزيبيسيونيسم» كارج، كَرْج الحَجَل، في لغة حية، نصف شفهية، أشد ما يدهش فيها أنها لا تخاطبك على أساس أنها ظريفة خفيفة، بل على أساس أنها عابسة متوترة وقليلة الصبر. إسكندر الرياشي يُطَقطق من الضحك لكنه لا يَضحك أبداً. «ويتابع أنسي الحاج بالقول عن أسلوب الرياشي وسخريته: «إسكندر الرياشي اخترع لغة لا هي عاميّة ولا فصحى بل عبارة عن مزاج تارة ينفجر وطوراً يقف مزمجراً على شفير الانفجار… الرياشي أدخل السخرية المحروقة. السخرية المفحّمة. المحروقة قهراً، يأساً، غضباً، والمفحّمة بزخم مرارة يبعثها مشهد الوطن الصغير المزروك على الدوام في مواقف المستضعَف أو المهدّد، والوطن هنا يأخذ في الكاتب نفسه تارة صورة الأب، المهاجر الذي حُرمه الكاتب صغيراً، وطوراً صورة الأمّ، الصحفية والأديبة حبّوبة حدّاد التي عادت وتزوّجت، مدخلةً إلى حياة الطفل بديلاً عن الأب، بدا كالتسلّل الاحتلالي أو الاحتلال المتسلّل إلى الداخل عن طريق استمالة الجناح الأضعف…».
هذا هو رأي الشاعر والكاتب المبدع أنسي الحاج في نقيب الصحافة اللبنانية إسكندر الرياشي كما رآه أنسي الحاج.

الرياشي شاهداً
البحث في سيرة حياة وعطاء إسكندر الرياشي «1890-1962» الصحفي والسياسي والمؤرخ، الذي اعترف البعض بصدقه وببصماته الواضحة على أحداث بلاد الشام، واعتبره البعض الآخر أنه عاش ومات على هامش الحياة.
من خلال قراءه سيرة حياته وكتابيه: «قبل وبعد» و«رؤساء لبنان كما عرفتهم» نقرأ العديد من الخفايا السياسية والتاريخية التي كان «الرياشي» شاهداً عليها، نقرأ أنه كان شاهداً على ملايين الجنيهات التي سعت لنفوس وضمائر بعض العرب لبيع أوطانهم للمستعمر وهو «الرياشي حسب اعترافه» واحد منهم!!
نقرا أنه كان شاهداً على معركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة، الشهيد الأكبر والمقدس والأغر- حسب قول الرياشي-.
و كان أيضاً شاهداً على أغلى سجل في العالم يحوي أسماء جميع الذين كانوا يخدمون المستعمر الفرنسي ويتظاهرون أمام الناس بالتجرد والنزاهة والوطنية التي لا تقبل انتداباً!!
كان للرياشي رأي في مواصفات رئيس لبنان وحكومته: «المطلوب رئيس جمهورية لا يتكلم، ولكننا نفهم ما يريد. ورئيس الحكومة يتكلم كثيراً ولا نفهم ماذا يعني». ‏‏ ونقرأ أيضاً:

أكبر قبضة
كان الرياشي يتقن الفرنسية بشكل ممتاز وهذا ما ساعده على التعاون والعمل مع المستعمر الفرنسي، وذات مرة كلفته المفوضية الفرنسية في بيروت، بشراء ضمائر الزعماء في منطقة البقاع اللبنانية ويروي د. محمد جمال طحان الحكاية فيقول: «… سأله المفوض السامي الفرنسي: توجد عدة شخصيات في منطقة البقاع و(بعلبك والهرمل تحديداً)، معارضة للانتداب، على اعتبارك يا إسكندر من زحلة (البقاع) فنحن نسألك ما علاج هؤلاء؟..
أجابه: العلاج معروف ندفع المال. سأله المفوض السامي كم يكلف هؤلاء؟ قال له: /30/ ألف ليرة إنكليزية، كانوا ستة، أخذ المبلغ على أن يدفع لكل واحد منهم /5/ آلاف، في طريقه إلى البقاع، وصل إلى ظهر البيدر فوقف وقال: نسينا إسكندر الرياشي فوقف وقسم المبلغ على سبعة وقال: (الآن برطلنا إسكندر الرياشي).. واستأنف المسير ووصل إلى بعلبك إلى واحد من آل حيدر وبعد أن شرب القهوة سأله: ما رأيك بالسياسة الفرنسية؟ فقال له: نحن ظلمنا الفرنسيين لأنهم نشطون يبنون المدارس ويشقون الطرقات وصار عندنا حرية بخلاف أيام العثمانيين، وبعد أن أنهى شرب القهوة ودّعه، وقال في نفسه: ما دام وافق، نحذف الـ(4000) التي هي حصته، فوضع المبلغ في جيبه وتابع طريقه، الباقون أدلوا برأيهم إيجابياً تجاه الفرنسيين، بقي القبضاي المشهور (ملحم قاسم) الذي كان (مطارداً فرارياً) ذهب إليه وبعد العشاء الذي حضره رؤساء العشائر وذبحت خلاله الذبائح سأله كيف حالك يا أبا علي؟ قال: صار لي كذا سنة بهذه الجبال، وتعبت، وهؤلاء أصحابك الفرنساوية هل يمكن أن تكلمهم من أجل ترتيب وضعي وإعفائي من المطاردة؟ فقال له: يا أبا علي.. أصحابي.. أصحابي.. ولكنك تعرف، لا شيء يمكن حله إلا بالمال. فقال له: كم تكلف العملية..؟ فقال له: تكلف /5/ آلاف ليرة».
ومن طرائف الرشا والرياشي أنه كتب ذات مرة في مجلة الصياد اللبنانية يقول: «محمد التابعي، الصحفي المصري الشهير، كتب في /أخبار اليوم/ جريدة علي أمين مصطفى أمين/ يتهمني فيها أني قبضت /10/ آلاف ليرة إنكليزية من جهة معينة، في الحقيقة أني /زعلت/ عندما قرأت الخبر ليس لأني لم أقبض الـ(10) آلاف، لقد قبضت الـ(10) آلاف وأكثر منها من جهات أخرى، لكن (زعلت) كيف عرف محمد التابعي أني قبضت المبلغ!».
والرياشي هو القائل: «كنت أقبض من الشيخ تاج الدين الحسني رئيس سورية السابق، وإسماعيل صدقي باشا رئيس وزراء مصر ومن فوق الطاولة». وبهذا الصدد يروى أن الرياشي كتب مجموعة مقالات يمتدح بها الشيخ تاج رئيس الجمهورية السورية في مطلع الانتداب الفرنسي. ولما زاره الرياشي في قصره، شكره الشيخ التاج وسأله عن كيفية مكافأته له، فأجابه على مسمع بعض زواره ووزرائه بأن المكافآت متنوعة، ولعل أفضلها المكافأة المالية السخية طبعاً!

الصحفي التائه
اشتهر الرياشي باسم جريدته «الصحفي التائه» التي أسسها عام 1922 وأصدرها في زحلة «وقيل إنه أصدرها في المهجر الأميركي» بشكل غير منتظم وكان يحررها بنفسه، ومن ثم ساعده في التحرير ابنه مارك « 1923 – 1973 م». عمل الرياشي في «الصحفي التائه» فملأها ظرفاً ودعابات واعترافات وكانت المقالة الجافة في «الصحفي التائه» تتحول إلى كلمات طريفة خفيفة الدم.
«الصحفي التائه» صنفت جريدة دورية منوعة «ساخرة»، مؤسسها إسكندر رياشي
يوم 28 أيلول 1922 م، مدير الجريدة: خان فخري بك، قياس الورق: 48 سم – 30 سم، نوع الورق:أصفر- ناعم سميك نسبياً ـ كتابة ملونة، الحالة العامة للجريدة: جيدة، عدد الصفحات: 16 صفحة، ألوان الحبر المستخدمة في الطباعة: أسود، لغة المجلة: العربية.
كان الرياشي يصدر جريدته ثلاث مرات في الأسبوع. وظل حتى وفاته في الستينيات يكتب موادها بنفسه، ويعتقد أن الناس سوف تشتريها بسبب ظرفه وأسلوبه. وكان يكتب في كل ساعة وكل وقت من النهار أو الليل، لا يهمه عندما يكتب أن يكون واقفاً أو جالساً، ولا يكتب مقالاً يزيد على بضعة عشر سطراً. وكان كلما عثر على طرفة في جريدة اقتطعها ونقلها إلى جريدته. وعندما يشعر أن «الصحفي التائه» خفضت مبيعاتها المتواضعة يطلب من سياسي صديق أن يهاجمها ويدعو إلى مقاطعتها… أخلاقياً، فتتضاعف مبيعات الجريدة مرة أخرى. وحاول أحد أصدقائه أن يزوره في مكتبه مرات عدة فلم يجده. وأخيراً ذهب إلى منزله وعاتبه سائلاً: «متى تذهب إلى مكتبك يا رجل؟». فأجاب الرياشي: «عندما ينام الدائنون ومحصلو السندات وحجَّاب محاكم التفليس ويكون محصلو البنوك في عطلة طويلة. لا أريد أن يقطع علي أحد من هؤلاء السفلة أحبال أفكاري».
اشتهر الرياشي بأنه الصحفي الأكثر إثارة وصراحة في مقالاته السياسية والأدبية وفي نمط حياته..
اتبع الرياشي أسلوباً جديداً جريئاً في تحرير جريدته، وخصص مساحة في جريدته لطلبات الزواج. فتلقى من إحدى القارئات رسالة تقول: «أنا فتاة في الخامسة والعشرين من عمري. متوسطة الحال. لا جميلة ولا غنية… أريد رفيقاً لحياتي حائزاً الشروط التالية: يكون في الثلاثين من عمره، له كل الصفات الحسنة. يجب أن يترك عمله عند المساء ليأتي لبيته. وأن يكون أحسن مني حالاً. يجب أن يكون قلبه نقياً». نشر الرياشي هذه الرسالة في جريدته بتاريخ 15 تشرين الثاني عام 1922 م، وعلق عليها: «إنني لو وجدت شاباً له الصفات التي تطلبينها، لذهبت حالاً وأنا حامل كيسَيْ ملح لتحت قوس القزح، ولصرت فتاة جميلة، ولأخذته أنا ولم اتركه لك ولا لغيرك».
صدرت جريدة «الصحفي التائه» في بيئة محافظة، ولكن الرياشي تحدى هذه البيئة وفتح صفحات جريدته للكتابات في العشق والغرام وعن الجنس اللطيف، وهذا ما أغضب مطران الكنيسة في زحلة، فاستدعى الرياشي لافتاً نظره للكف عن مثل هذه الكتابات المخلة بالآداب. ولكن الرياشي لم ينصع لتعليمات المطران، ما دعا المطران إلى الدعوة في الكنيسة لمقاطعة جريدة «الصحفي التائه» علناً.
وبعد هذه الدعوة خرج الناس من الكنيسة، وتوجهوا إلى المكتبات والدكاكين لشراء «الصحفي التائه» وقراءة الممنوع المرغوب فيها. ولما كان الإقبال كثيفاً على «الصحفي التائه»، فقد اضطر الرياشي إلى إصدار طبعة ثانية…

Exit mobile version