Site icon صحيفة الوطن

لعبة ورق

| إسماعيل مروة

دعاني أكثر من صديق، وفي مرات عديدة لجلسة لعب ورق، وكنت أعتذر دوماً، لأنني لا ألمس الورق نهائياً، ومنذ أيام سألني أحد الأصدقاء الأجلّاء: ألا تسهر مع أصدقائك للعب ورق الشدّة نهائياً؟

تحدثنا وضحكنا، وأشار بأن أذكر هذه القضية للفائدة والطرافة، وما فيها من روح الحكاية..

كنت في مرحلة الشباب الأول ألعب الورق وأدمن اللعب، وأجيد الحسابات فيها وعدّ الأوراق للوصول إلى نتيجة جيدة فيها، ومع مجموعة من الأصدقاء، لا يزالون أصدقاء لي وأحبهم، كنا نجتمع بشكل يومي للعب الورق حتى مطلع الفجر. مع ما يتطلبه ذلك من مستلزمات السهرة عند أي واحد منا، ولأنني كنت عاملاً ومنتجاً منذ بداية حياتي، غالباً ما تكون السهرة في غرفة أخي المسافر التي أقيم فيها خلال سفره، واليوم أعترف بأن لعبة الورق أثرت علي وعلى زملائي بشكل كبير في التحصيل العلمي والنجاح، وإن كان أكثرهم لا يعترف ويعدّها تسلية وحسب.

وفي سهرة لعب طالت حتى أشرقت الشمس ، تعبت وبدأت ألقي الورق جزافاً ما أدى إلى ظهور عصبية صديقي وشريكي، ولم يترك شتيمة لم يقلها لأني كنت سبب خسارته فما كان مني إلا أن جمعت الورق وقصصته، وتركته إلى غير رجعة منذ ذلك اليوم، ولا أشعر بأي رغبة في اللعب مهما كان مغرياً. بالأصحاب والصراخ .. وصرت مجرد متابع لمن يلعب الورق أو الزهر أو الشطرنج أو الضاما أو البدريس أو أي لعبة، وقد رأيت ما نجوت منه، حين يفور الدم في وجه الخاسر، ويقسم على خصمه ألا يتحرك قبل أن يقوم بالانتقام، بل إن أحد الكبار غلبه صديقه وغادر ، فذهب في منتصف الليل إلى بيته وجاء به وهو شبه نائم، ليلعب معه ويغلبه لأنه لم يستطع النوم مغلوباً.

وفي مقاهي دمشق وقريتي كنت أتابع اللعب بين الأصدقاء، ويدعون أنه تسلية وليس قماراً على الشاي أو القهوة، وكم من مرة رأيت العامل المياوم وهو يدور طول نهاره ليجمع ليراته، وعلى طاولة المقهى يتغامز أصحابه، ويلعبون معه، ليدفع كل ما عمل به طول النهار ثمناً للمشاريب، ولم يغلبوه إلا بالغش!

وما رأيته عزز في نفسي القناعة بالابتعاد عن لعب الورق، خاصة أن وقت لعبة واحدة يمكن أن أقرأ فيه كتاباً كاملاً أو ديواناً أو رواية، وفيما بعد، صار الوقت كافياً للقراءة والنقد…

قال صديقي وكيف تلعب؟

أجبته ببساطة: أنا كل يوم ألعب الورق، وبكل أنواع الألعاب، ولكن مع شاشة الحاسب، أختار اللعبة، وإن شعرت أنه سيغلبني أوقف اللعبة وأعيدها من جديد، أو أنتقل لسواها.. والطريق أن الشاشة تؤدي دوراً قد يتفوق على الخصم، فقد أنسى نفسي أحياناً، وأنسى أني ألعب مع آلة، فأشتمه وألعنه، وقد أبدأ سيلاً من الكلام، فأتذكر أنني ألعب مع آلة، وألتفت حولي خشية أن يكون أحدهم قدر آني وأنا مهزوم على الشاشة، أو سمع ألفاظي التي تكون أحياناً كثيرة مسموعة، ودون أن يقوم الكمبيوتر بأي ردة فعل تجاه سوء خلقي وتصرفي.

هذه حياتنا المستقبلية مع الذكاء الصناعي كذلك قال صديقي، وقلت: ربما، لكن لن يزعجنا فنحن في خواتيم الرحلة الحياتية، وليس لدينا ما يحتاجه الذكاء الصناعي.

قبل أربعين عاماً كان رد فعل الصبي الذي هو أنا بأن هجر لعبة ورق الشدّة، لأن الحياة كلها تسلية، وليست لعبة الورق وحدها هي التسلية، وكان مقتنعاً بأن الحياة فيها في اللعب الربح والخسارة، ولا شي يستحق أن تزعج نفسك من أجله، وكثير ممن أعرف أو لا أعرف يفعل الفعل نفسه، وينفعل كذلك وأكثر للعبة ورق، ولكنه قد يتقاعس عن أي شيء مهم يبني حياته وشخصيته وماله!!

يغضب واحدنا للعبة ورق.

قد يكسّر ما حوله للعبة كرة، ولو كانت لفرق غريبة لا علاقة له بها، ولكنه قد لا يعنيه الكثير من شخصه وموقفه ووطنه!

مات أكثرهم.

ولكنني شهدت، وكثيرون شهدوا أناساً التصقوا بكرسي الخيزران في المقهى من أجل التسلية والغضب لها، بينما كانت الحياة في الخارج تخترق جدار الصوت والحياة، وتكسر النوافذ وتهدم البيوت ولكن دون أن يشعروا بها!

Exit mobile version