Site icon صحيفة الوطن

جوهر الصراع بين الحكومة الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية

| محمد نادر العمري

طفت في الآونة الأخيرة، ولاسيما بعد مرور أكثر من عشرة أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اتساع رقعة الخلاف بين الحكومة الإسرائيلية التي يترأسها بنيامين نتنياهو، وبين المؤسسة العسكرية بأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، في ظاهرة لم يشهدها الكيان الإسرائيلي منذ تكريسه في المنطقة عام 1948م، ليرجع البعض في تحليله لنشوب هذه الظاهرة واتساعها لما آلت إليه، إلى الفشل الذريع في تحقيق الأهداف المعلنة وغير المعلنة لهذا الكيان بقطاع غزة من خلال استخدام الآلة العسكرية وارتكاب المجازر والإبادة الجماعية وتدمير البنى التحتية.

في الواقع، يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني تمكنوا من خلال مواجهة المشاريع الإسرائيلية من خلال التصدي لهذا العدوان وتغيير قواعد الاشتباك وإظهار المقدرات الدفاعية والنوعية في إدارة المعارك داخل المدن، وقبل ذلك في تنفيذ عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، وما تطلبته من تخطيط ومناورة وتدريب وتجهيز وتنظيم ورصد، كشفت مدى هشاشة هذا الكيان عموماً، وعمقت من اتساع رقعة الخلاف بين الحكومة والمؤسسة العسكرية.

إن نواة هذا الخلاف يمكن إرجاعه قبل ذلك بفترة وجيزة، وبصورة خاصة، منذ وصول الحكومة الحالية بائتلافها المتزاوج بين اليمين الليبرالي «الليكود» واليمين المتطرف متمثلة بـ«الأحزاب الدينية والصهيونية» نهاية عام 2002، للسلطة، عندما بادر نتنياهو لمنح رئيس حزب الصهيونية الدينية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، صلاحيات مدنية للحاكم العسكري في الضفة، كجزء من جملة صفقات وامتيازات ما قبل تشكيل حكومة اليمين المتطرفة، التي ضمنت تولي نتنياهو للمرة السادسة رئاسة الحكومة رغم إدانته بأربع قضايا فساد.

نقل صلاحيات ومهام المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى سموتريتش واستحداث منصب جديد له إلى جانب وزارة المالية وهو وزير إضافي داخل وزارة الدفاع له صلاحيات عملية في منطقة الضفة الغربية، لم تكن هي فقط نقطة التجاذب والخلاف، بل انجراف نتنياهو وتبنيه لخطوات واقتراحات شركائه في الائتلاف، سواء في تبني مشروع تعديل مهام وصلاحيات المحكمة الدستورية العليا، وإحداث تعديلات قضائية تمنح رئيس الحكومة صلاحيات أكبر، دون رقابة أو سلطة قضائية عليه، إضافة، لمشروع قانون استمرار إعفاء اتباع الأرثوذكسية اليهودية «الحريديم» من الخدمة العسكرية، دفع بالمؤسسة العسكرية والمسؤول عنها متمثلاً بوزير الدفاع الإسرائيلي يوآلف غالانت للصدام في أكثر من مناسبة مع نتنياهو، والذي لم يتوان عن توقيع قرار إعفاء غالانت من وزارة الدفاع في نهاية شهر آذار 2023، قبل أن يتراجع نتنياهو عن قرار الإعفاء هذا، ليس بسبب الخلفية الإيديولوجية الحزبية التي تجمعه مع غالانت، فكلاهما من حزب الليكود، بل نتيجة ما أحدثه هذا القرار من انزعاج وتخوف داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والإدارة الأميركية من تولي المتطرفين هذا المنصب.

هذا الخلاف، وإن شهد حالة من الجمود، لفترة وجيزة بعد حصول عملية طوفان الأٌقصى، ومحاولة توحيد الصف الداخلي الإسرائيلي من قبل نتنياهو من خلال تشكيل مجلس الحرب، الذي ضم شخصيات سياسية وعسكرية معارضة لنتنياهو، مثل وزير الدفاع الإسرائيلي السابق وزعيم معسكر الدولة بني غانتس، ورئيس هيئة الأركان السابق غادي ايزنكوت لاستعادة هيبة وصورة الكيان التي سقطت نتيجة هذا الفعل المقاوم، إلا أن هذا الخلاف ما لبث بالاتساع مجدداً، بعد نشر نتنياهو تغريدة على منصة «أكس» نهاية تشرين الأول 2023، حمل خلالها مسؤولية ما حصل في السابع من تشرين لتقاعس قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، قبل أن يضطر لحذفها، نتيجة احتدام الخلاف حول هذه التغريدة داخل الحكومة، لتتوالى بعد ذلك اتساع فجوة الخلاف بسبب رغبة نتنياهو وشركائه في اليمين المتطرف باستمرار العمل العسكري العدواني على قطاع غزة، وهو ما أفضى بداية لانسحاب كل من غانتس وايزنكوت من مجلس الحرب قبل حله بقرار من نتنياهو مطلع شهر حزيران الماضي، وصولاً لعودة الصدام مجدداً بين غالانت ونتنياهو داخل الكنيست بسبب التصويت على قانون «إعفاء الحريديم» من الخدمة العسكرية في مرحلته الأولى، وتناقض الرؤى حول التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية تنهي الحرب، واختلاف المسار فيما سمي بـ«اليوم التالي لانتهاء الحرب على قطاع غزة»، في ظل تخوف بات يسود جيش الاحتلال الإسرائيلي من فكرة الحكم العسكري لغزة وفق ما يطالب به كل من سموتريتش وبن غفير وغيرهم من المتطرفين، بسبب التكلفة البشرية والمادية الباهظة، وقد حذر غالانت سابقاً من هذه الخطوة، معتبراً أن الحكم العسكري يحتاج لثلاث فرق عسكرية، وتكلفة مادية تصل لنحو 6 مليارات دولار سنوياً للإدارة العسكرية فقط، دون الشؤون المدنية.

النقاط الخلافية هذه وغيرها، باتت تدفع نتنياهو للاقتراب من تبني قرار يعفي بموجبه غالانت من وزارة الدفاع، والتفاوض مع رئيس حزب الأمل الجديد جدعون ساعر لشغل هذا المنصب قريباً. وهو ما دفع العديد من مراكز الدراسات الإسرائيلية، وما يمكن تسميتهم النخب العسكرية، بناء على هذه الأحداث وفق الصيغة التراتبية السابقة، لدق «ناقوس الخطر» والتداعيات والمخاطر التي قد تنجم عن استمرار الخلاف بين الحكومة والمؤسسة العسكرية، في تكريس انقسام وفوضى غير مسبوقة داخل الكيان، ولاسيما أن المؤسسة العسكرية، هي أول مؤسسة رسمية تم تشكيلها في الكيان، بعد 12 يوماً من حدوث نكبة حزيران، بقرار من وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس الحكومة المؤقتة دافيد بن غوريون في 26 أيار 1948، عندما تم تحويل العصابات والتنظيمات الإرهابية لنواة هذا الجيش، كما أن السواد الأعظم من رؤساء الحكومات والوزراء الذين وصلوا لمناصبهم الحكومية، هم ذوو مرجعية عسكرية، مثل ديفيد بن غوريون، ومناحيم بيغن، وموشيه يعالون، وأرئيل شارون، وغيرهم الكثير.

ازدادت أهمية ومكانة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حينما تبنى الكنيست الإسرائيلي قراراً في 31 آذار من العام 1976، يتضمن «ترسيخ مكانة الجيش وأهدافه في وضع القوانين الأساسية لإسرائيل»، أي جعله أحد أبرز جماعات المصالح أو ما يعرف بمؤسسات الدولة العميقة داخل الكيان، في صنع واتخاذ السياسات العامة، والمساهمة في تحديد وبلورة معالم السياستين الداخلية والخارجية.

في الحقيقة، جوهر الخلاف بين الحكومة الحالية والمؤسسة العسكرية، والذي أمسى يتصدر وسائل الإعلام الإسرائيلية والإقليمية والدولية، هو أكبر بكثير من مجرد خلافات داخلية في الرؤى حول صفقة التبادل، أو بخصوص مستقبل غزة، أو تلك المتصلة بمعبر رفح ومحور فيلاديفيا مع مصر، أو العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، أو الخلاف حول تجنيد الحريديم أو غيرهم، الخلاف في جوهره يعود لنقطة أساسية، كل ما سبق يمكن اعتباره مجرد تفاصيل به، هذه النقطة تتمثل في مسعى بنيامين نتنياهو وشركائه في الحكومة من اليمين المتطرف لإحداث تغيير بنيوي في طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي، من خلال تقليص صلاحيات القضاء، وإبعاد المؤسسة العسكرية من مسار رسم السياسات أو إخضاعها، حيث تكون ولاءات قادتها للتيار الحاكم، وربما العودة لبعض التعيينات التي حصلت خلال العقدين السابقين داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي أفضت لأن يكون قادة خمس فرق من أصل ست تتولى الآن العدوان على غزة، من خريجي مدرسة «عيلي» الدينية الاستيطانية التي تعد رمز التطرف في إسرائيل، ويطلق عليها مدرسة «السم» من شدة تطرفها.

كاتب سوري

Exit mobile version