Site icon صحيفة الوطن

في حوار خاص مع «الوطن» بمناسبة الذكرى الثمانين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين سورية وروسيا … السفير يفيموف: التعاون الروسي – السوري وصل اليوم إلى مستوى نوعي جديد من الشراكة الإستراتيجية الشاملة

| سيلفا رزوق – تصوير طارق السعدوني

أكد سفير روسيا في سورية والممثل الخاص لرئيس روسيا الاتحادية لتطوير العلاقات مع سورية ألكسندر يفيموف أن التعاون الروسي – السوري وصل اليوم إلى مستوى نوعي جديد من الشراكة الإستراتيجية الشاملة، إذ يأخذ بلدانا مواقف متشابهة أو متطابقة تماماً بشأن جميع القضايا الدولية والإقليمية المطروحة على بساط البحث، ونحن نُقدّر هذه العلاقات المتميزة ونبذل جهوداً حثيثة لتطويرها وتعزيزها.

وفي حوار خص فيه «الوطن» بمناسبة الذكرى الثمانين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، جدد السفير يفيموف التأكيد أن الشرط الأساسي لتحقيق النصر النهائي على الإرهاب في سورية هو استعادة سيطرة السلطات السورية على كامل أراضي البلاد، إذ يستفيد الإرهابيون من الوضع الحالي، حيث تخضع بعض مناطق الجمهورية العربية السورية لسيطرة قوات مختلفة توجد هنا من دون دعوة من دمشق بحجة محاربة الإرهاب. مبيناً أن «هؤلاء الضيوف غير المدعوين يَرْعون علناً العصابات المختلفة وينهبون الموارد الطبيعية السورية». وفيما يخص التعاون الاقتصادي لفت السفير يفيموف إلى أنه وعلى الرغم من الصعوبات الموضوعية المرتبطة بالعقوبات الغربية غير القانونية الأحادية الجانب المفروضة على البلدين، فإن التعاون التجاري الاقتصادي الروسي السوري مستمر في التطور.

وفي الشأن السياسي أشار السفير الروسي إلى ملف «التقارب» السوري – التركي، كاشفاً أن كل ما تنشره وسائل الإعلام سابق لأوانه. لأن إجراء اتصالات مباشرة بين ممثلي الجمهورية العربية السورية والجمهورية التركية بشأن التطبيع يجب أن يسبقه إعداد دقيق، وهو جارٍ على قدم وساق. وآلية الحوار الرئيسية حول هذه القضية هي الصيغة الرباعية (روسيا وإيران وسورية وتركيا)، مبيناً أنه وفي الوقت نفسه فإنه من المُفيد إشراك دول أخرى في هذه العملية من أجل تنشيط الخطوات ذات العلاقة.

سفير روسيا في سورية اعتبر بأن ما يحدث في قطاع غزة هو نتيجة الجمود الطويل الذي تشهده عملية السلام في الشرق الأوسط، وذلك بسبب احتكار واشنطن لجهود الوساطة وترويجها لمصالح طرف واحد للنزاع فقط على حساب الحل العادل للقضية الفلسطينية.

السفير يفيموف أشار إلى العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا وقال: «نحن على قناعة تامة بذلك، فإن انتصارنا في أوكرانيا سوف يمثل نهاية العالم الأحادي القطب وظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدالة». معتبراً أن العملية العسكرية الخاصة أظهرت بأن الولايات المتحدة وحلفاءها فقدوا فرصاً حقيقية للحفاظ على تفوقهم الكامل، فقد فشلوا في انهيار اقتصادنا أو إجبار العالم على عزل روسيا. وحول العلاقة مع الصين أكد السفير يفيموف أن بكين تعد حليفاً استراتيجياً مُهماً، إذ تقوم العلاقات معها على المصالح المتبادلة الوثيقة. كما تربط الجمهورية العربية السورية أيضاً علاقات وثيقة مع الصين، ولاسيما من خلال الانضمام إلى مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. كما قام الرئيس بشار الأسد في العام الماضي بزيارة طويلة إلى الصين.

ولفت إلى أن موسكو وبكين مقتنعتان بأن جميع الدول وبناءً على إرادة شعوبها، لها الحق في اختيار النهج التنموي وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقال: «أنا على ثقة من أن النموذج العالمي الجديد سوف يخلق الظروف المؤاتية لحل الصراعات الإقليمية، بما في ذلك في الجمهورية العربية السورية الصديقة». وفيما يلي النص الكامل للحوار:

• إذا عدنا إلى عام 1944، فإننا نلاحظ حقيقتين: في ذلك الوقت كان الاتحاد السوفييتي لا يزال يخوض معارك ضارية ضد ألمانيا النازية. وسورية على الرغم من المقاومة الوطنية، كانت لا تزال تحت الانتداب الفرنسي. إلا أن بلدينا أقاما علاقات دبلوماسية استمرت لمدة (80) عاماً. ما الذكريات التي تتبادر إلى أذهانكم في هذا التاريخ العزيز على الشعبين؟

إنَّ العلاقات الروسية-السورية لها جذور عميقة تعود لعدة قرون، ففي عام 1893 تمَّ افتتاح قنصلية للإمبراطورية الروسية في دمشق لمساعدة العديد من الحجاج الذين يزورون الأراضي المقدسة. لكن الحرب العالمية الأولى وثورة تشرين الأول أثرتا على تطور الأحداث الطبيعي، وجعلتا عَمَل البعثة الروسية في سورية مستحيلاً.

لذلك استؤنفت العلاقات بين بلدينا رسمياً في منتصف القرن الماضي، والمثير للاهتمام هو أن ذلك تمَّ في عام 1944 أي قبل عامين من جلاء القوات الفرنسية من سورية. وأريد أن أذكّـر هنا بأن سورية حصلت على الاستقلال في شهر أيلول عام (1941) لكن فرنسا تركت مجموعة من وحداتها العسكرية في الأراضي السورية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي عام (1944) اقترحت سورية على الاتحاد السوفييتي إقامة العلاقات الدبلوماسية. واستجابت القيادة السوفيتية بسهولة لهذه المبادرة إذ أدركت بالفعل المكانة المستقبلية المهمة لسورية في المنطقة وعلى الساحة الدولية. وهكذا في شهر تموز من عام (1944) تمَّ وضع بداية التعاون الوثيق المتبادل المنفعة بين بلدينا.

وفي (16) شباط عام (1946) استخدم الاتحاد السوفييتي أول مرة حق النقض في تاريخ مجلس الأمن في الأمم المتحدة، حيث لم يُمرِر مشروع قرار مثير للجدل ومُتعلق بانسحاب القوات الأجنبية من أراض سورية ولبنان.

لقد تمَّ إنجاز الكثير من أجل سورية على مدى العقود الماضية، ومن خلال المساعدات الاقتصادية والفنية من الاتحاد السوفييتي تمَّ بناء أكثر من (80) منشأة صناعية كبيرة – مصانع ومعامل ومحطات توليد الكهرباء – كما تمَّ مَدْ نحو (2) ألف كيلومتر من السكك الحديدية و(3.7) ألف كيلومتر من خطوط نقل الكهرباء، إضافة إلى تطوير التعاون العسكري التقني.

تلقى أكثر من (35) ألف سوري التعليم في الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا السوفيتية. وبعد عودتهم إلى وطنهم قاموا بدور فعّال في تعزيز مؤسسات المجتمع، وتطوير الاقتصاد السوري، وتنفيذ مشروعات تقنية مهمة.

ويتمُّ الحفاظ على هذا التقليد بعناية حتى يومنا هذا، وفي السنوات الأخيرة دأبت روسيا باستمرار على زيادة عدد المنح الدراسية المجانية المُقدّمة للسوريين في الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا في بلادنا، وفي الوقت الحاضر يبلغ عدد المنح المُقدّمة للسوريين ألف منحة سنوياً – وهذه واحدة من أكبر الحصص المُقدمة، ولا نجد أكبر منها سوى لبعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.

وقد أصبح إدراج اللغة الروسية كلغة أجنبية ثانية في برنامج التعليم العام في الجمهورية العربية السورية في عام (2014) خطوة جادة في تعميق العلاقات الثقافية، ومن دواعي السرور أن الشباب السوريين لديهم اهتمام متزايد بدراستها. وعلى مدى السنوات العشر الماضية زاد عدد طلاب اللغة الروسية بما يقرب من (20) مرّة وذلك من (2.5) ألف شخص إلى أكثر من (40) ألف شخص حيث يتم تدريسها حالياً في ( 240) مؤسسة تعليمية.

في شهر أيلول من عام (2015) استجابت روسيا لطلب أصدقائها السوريين وقررت تقديم المساعدة في الحرب ضد الإرهاب الدولي. وفي ذلك الوقت كان المسلحون – بمن في ذلك الأجانب – يسيطرون على جزء كبير من البلاد، بما في ذلك بعض مناطق العاصمة. إذ إن كيان الدولة السورية نفسه كان معرضاً للتهديد، وبمساعدة عسكرية روسية نَشِطَة، تمكّن السوريون من كسر ظهر الإرهاب الدولي والدفاع عن البلاد.

وأستطيع أن أقول من دون أي مُبالغة إن التعاون الروسي السوري وصل اليوم إلى مستوى نوعي جديد من الشراكة الإستراتيجية الشاملة، إذ يأخذ بلدانا مواقف متشابهة أو متطابقة تماماً بشأن كل القضايا الدولية والإقليمية المطروحة على بساط البحث، ونحن نُقدّر هذه العلاقات المتميزة ونبذل جهوداً حثيثة لتطويرها وتعزيزها.

• من الصفحات المجيدة في تاريخ العلاقات الروسية-السورية أننا أصبحنا إخوة في السلاح في الحرب ضد الإرهاب الدولي الذي ما زال ينشط بين الفينة والأخرى. برأيكم كيف يمكن القضاء على الجماعات الإرهابية، خاصة في ظل وجود قاعدة أميركية في منطقة التنف؟

لقد قلنا أكثر من مرة إن الشرط الأساسي لتحقيق النصر النهائي على الإرهاب في سورية هو استعادة سيطرة السلطات السورية على كامل أراضي البلاد، إذ يستفيد الإرهابيون من الوضع الحالي، حيث تخضع بعض مناطق الجمهورية العربية السورية لسيطرة قوات مختلفة توجد هنا من دون دعوة من دمشق بحجة محاربة الإرهاب. لكن في الواقع هؤلاء الضيوف غير المدعوين يَرْعون علناً العصابات المختلفة وينهبون الموارد الطبيعية السورية.

كما أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار والأمن في الجمهورية العربية السورية وما حولها إلا من خلال الاحترام غير المشروط لوحدة سورية وسيادتها على كامل ترابها واستقلالها وسلامة أراضيها.

3- كيف يمكن الارتقاء بالتعاون التجاري والاقتصادي بين بلدينا إلى مستوى التفاعل الدبلوماسي والسياسي والعسكري؟

على الرغم من الصعوبات الموضوعية المرتبطة بالعقوبات الغربية غير القانونية الأحادية الجانب المفروضة على بلدينا، فإن التعاون التجاري الاقتصادي الروسي-السوري مستمر في التطور. إذ تقوم مؤسساتنا الصناعية والتجارية بتنفيذ مشروعات اقتصادية وبنية تحتية كبيرة مصممة لتسهيل عودة سورية إلى الحياة السلمية الكاملة والاستقرار الاقتصادي.

في شهر تشرين الأول عام ( 2023) عُقد اجتماع في موسكو بين رئيسي اللجنة الحكومية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي والتقني. في تلك الفترة كان منصور عزام الذي شغل منصب وزير شؤون رئاسة الجمهورية ممثّلاً للجانب السوري في المحادثات مع إيريك فَيْزُلين وزير البناء والإسكان والخدمات المجتمعية في روسيا الاتحادية. حالياً كما تعلمون فإن محمد سامر الخليل وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية هو الذي يرأس الجانب السوري في اللجنة المذكورة. وكانت النتيجة العملية الرئيسة لهذا الاجتماع هي التوقيع على اتفاقية بشأن توسيع التعاون التجاري والاقتصادي بين بلدينا، وتمنح هذه الوثيقة الكيانات التجارية الروسية الحق في تنفيذ عشرات المشروعات في سورية بالتعاون مع شركاء سوريين. ونأمل أن يتم قريباً تشغيل عدد من المشروعات التي نفذتها شركاتنا في سورية، ومن بينها مطحنة في مدينة تلكلخ بمحافظة حمص باستطاعة 600 طن من الدقيق يومياً، إضافة إلى إنشاء منظومة لإمداد مدينة اللاذقية بمياه الشرب.

في عام ( 2022) وصل حجم التبادل التجاري الثنائي إلى مستويات قياسية خلال العقد الماضي. ويستمر هذا النهج الإيجابي في هذا العام، إذ تمَّ تسجيل زيادة بأكثر من (40 بالمئة). وعلى وجه الخصوص، قرّر الاتحاد الأوراسي الاقتصادي في عام 2020 منح تسهيلات جمركية لدمشق فيما يتعلق بالصادرات السورية الرئيسة، مثل الحمضيات والبذور المختلفة وزيت الزيتون والمُكسّرات وغيرها. ونتوقع أن يصبح بدء التطبيق العملي لآلية استيراد البضائع المعفاة من الرسوم الجمركية حافزاً إضافياً لزيادة حجم إمدادات المنتجات السورية إلى السوق ليس في روسيا فقط، ولكن أيضاً في الدول الأعضاء الأخرى في هذا الاتحاد الجمركي. وفي المجمل على مدى السنوات الخمس الماضية تضاعفت الواردات الروسية من الجمهورية العربية السورية بنحو أربع مرات.

• في الآونة الأخيرة، تجدد الحديث عن محاولات تقريب سورية من تركيا مرة أخرى. وكما تعلمون فإن روسيا هي التي بدأت هذه العملية حيث عقدت قبل عام تقريباً الاجتماع الرُباعي الشهير على أراضيها، فهل هناك تقدم ملموس على هذا «المسار»، خاصة في ظل أنباء عن انضمام بغداد إلى جهود الوساطة للتطبيع السوري-التركي؟

أعتقد أن كل ما تنشره وسائل الإعلام سابق لأوانه. لأن إجراء اتصالات مباشرة بين ممثلي الجمهورية العربية السورية والجمهورية التركية بشأن التطبيع يجب أن يسبقه إعداد دقيق، وهو جارٍ على قدم وساق. وآلية الحوار الرئيسية حول هذه القضية هي الصيغة الرباعية (روسيا وإيران وسورية وتركيا)، وفي إطاره، تستمر الجهود الرامية إلى تقريب التوجهات الأساسية بين دمشق وأنقرة.

فان أحداً لن يجادل بأن استعادة العلاقات السورية التركية التي كانت تتسم سابقاً بحسن الجوار، لن يكون لها تأثير إيجابي على الحالة في الجمهورية العربية السورية فحسب، بل ستسهم أيضاً في تحسين الوضع في المنطقة بشكل عام. وفي الوقت نفسه نرى أنه من المُفيد إشراك دول أخرى في هذه العملية من أجل تنشيط الخطوات ذات العلاقة.

• تتم مناقشة مسألة عقد اجتماع للجنة الدستورية من جديد، وتمّ اقتراح مدينة بغداد كمنصة بديلة لذلك. فما موقف روسيا من هذه المسألة؟

لقد توقفت اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف بعد أن فقدت سويسرا مكانتها كمنصة محايدة بانضمامها إلى العقوبات المفروضة على روسيا. ولم يكن من الممكن حتى الآن إيجاد مكان بديل، لكن العمل في هذا الاتجاه يجري بشكل حثيث. في الواقع، تمَّ اقتراح بغداد كأحد الأماكن لاجتماعات اللجنة الدسـتورية، إلا أنه لم يتم التوصل بعد إلى توافق حول الخيار العراقي. وفي هذا الصدد، يتم أيضاً الأخذ بالحسبان العواصم العربية الأخرى بمنزلة «منصة» جديدة، ونحن من جانبنا سندعم أي خيار يتفق عليه المشاركون في المفاوضات التي ستجري بين السوريين بهذه المِنَصّة.

• اسمحوا لي أن أنتقل إلى القضايا الإقليمية فمنذ مقابلتكم الأخيرة مع صحيفة الوطن والحرب مستمرة في غزة حتى يومنا هذا. لماذا برأيكم لم يتمكن العالم من إيقافها ووقف قتل المدنيين الفلسطينيين، رغم صدور قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة؟

إنّ ما يحدث في قطاع غزة هو نتيجة الجمود الطويل الذي تشهده عملية السلام في الشرق الأوسط، وذلك بسبب احتكار واشنطن لجهود الوساطة وترويجها لمصالح طرف واحد للنزاع فقط على حساب الحل العادل للقضية الفلسطينية.

كما اتّخَذ الأميركيون موقفاً مماثلاً في مجلس الأمن للأمم المتحدة، فقد أخّروا عمل الجلسة المخصصة لغزة بكل الطرق الممكنة مُتذرّعين بحجة المفاوضات المنفصلة الجارية مع أطراف النزاع وحساسية اللحظة، والتي تبين أنها غير حاسمة. وخلال هذه الأشهر العشرة، استخدمت الولايات المتحدة الأميركية حق النقض ثلاث مرات ضد مشاريع قرارات بشأن وقف فوري لإطلاق النار في غزة، كما مَنَعَت مشروع قرار يوصي بقبول دولة فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة.

إذ إنه رغم الجهود الكبيرة والقرارات المتعلقة بقطاع بغزة التي اتخذها مجلس الأمن في الأمم المتحدة بصعوبة بالغة، فإن احتمالات نقل الصراع المشتعل بقوة متجددة إلى القنوات السياسية والدبلوماسية وإقامة وقف دائم لإطلاق النار للأسف ليست واضحة. كما أنه من المؤسف أن نعترف بحجم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة والتي تتسع كل يوم، حيث يصل سكانه ودون مبالغة إلى حافة المجاعة المميتة. تقع غزة تحت الأنقاض حيث تم تدمير معظم المباني السكانية والمدارس والمشافي، وأصبحت البنية التحتية المدنية الأساسية خارج الخدمة. تنتشر في القطاع الأوبئة الخطيرة. قُتل وجُرح بالفعل أكثر من 100 ألف شخص، إذ إن عدد القتلى والجرحى المدنيين يعتبر أكبر بضعفين من عدد ضحايا الأزمة الأوكرانية خلال السنوات الـعشر بعد انقلاب شباط 2014. من جانبها تواصل إسرائيل عمليتها العسكرية التي يتعذر في ظلها توفير المساعدة الإنسانية الكافية لمحتاجيها.

كما أن الوضع في كل من الضفة الغربية والقدس الشرقية صعب جداً حيث لا تتوقف هناك عمليات الدهم والعنف من قبل العسكريين الإسرائيليين، كما لا يتوقف عدوان المستوطنين. وإضافة إلى ذلك وفي انتهاك بارز لقرار مجلس الأمن 2234 لا تقلل إسرائيل من «الضمّ الزاحف» (في شكل بناء المستوطنات غير الشرعية) بل تعزز نطاقها.

وإن الأحداث المأساوية في قطاع غزة – التي أصبحت بالفعل في أثناء السنوات الطويلة الماضية سجناً في الهواء الطلق لملايين من الفلسطينيين – تؤكد ما كانت روسيا تُحذّر منه جميع الفرقاء في الشرق الأوسط منذ سنوات عديدة، وهو أن تكرار المواجهات الواسعة النطاق واندلاع أعمال العنف أمر لا مفر منه، حتى تتمكن الجهود المشتركة من القضاء على السبب الرئيسي للصراع الطويل الأمد وتصحيح الوضع، وذلك برفع الظُلم التاريخي بحق الشعب الفلسطيني. ونحن نتحدث هنا عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ضمن حدود عام (1967) وعاصمتها القدس الشرقية وفق قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. إننا على اليقين بأن الفلسطينيين قادرون على تحديد مستقبلهم بأنفسهم ودون أي تدخل خارجي، مهما كانت رغبة البعض في مصادرة حقهم في إقرار المصير ضد إرادتهم. وهذا يتعلّق أيضاً بمستقبل غزة كجزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية.

ندعم وقف إطلاق النار المطلق والشامل. إن بلادنا مستعدة لبذل كل ما في وسعها لتهدئة الصراع، من خلال الاتصالات المنتظمة مع الجانبين، وهنا نتحدث مباشرة عن ضرورة كسر هذه الحلقة المُفرغة من العنف والجلوس إلى طاولة المفاوضات.

وفي الوقت نفسه، ننطلق من أن تحقيق السلام الشامل مستحيل دون استعادة وحدة الصف الفلسطيني، واسترشاداً بذلك نظّمنا ما بين 29 شباط و1 آذار جولة جديدة من المشاورات بين الفلسطينيين في موسكو. نأمل أن تكون الاتصالات القادمة في بكين في أواخر تموز الجاري بين ممثلي حركتي فتح وحماس مثمرة.

وفي الوقت ذاته نواصل تقديم كل المساعدات الإنسانية الممكنة للفلسطينيين، وذلك منذ بداية الأزمة إذ تم إرسال أكثر من (500) طن من المساعدات الإنسانية إلى غزة عن طريق وزارة الطوارئ الروسية.

كما شاركت الفعاليات المجتمعية الروسية بشكل فاعل في جمع المساعدات الإنسانية، إذ تّم من خلال جهودها جَمعْ مئات الأطنان من الأدوية والملابس الدافئة والخيام والمواد الغذائية والضروريات الأساسية.

وكما تعلمون، في 17 تموز من هذا الشهر تولّت روسيا مهمة رئاسة مجلس الأمن في الأمم المتحدة. ، إذ عُقدت، برئاسة سيرغي لافروف، حيث جرت مناقشات رُبع سنوية مفتوحة منتظمة حول عملية السلام في الشرق الأوسط، وكان تركيز هذه المناقشات على غزة. وخلال هذه الفعالية أعرب وزير الخارجية مرة أخرى عن نهجنا المبدئي لمصلحة وقف إطلاق النار على نطاق واسع ودائم، بالإضافة إلى الإفراج عن الرهائن والأشخاص المحتجزين قسراً، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.

ننطلق من أن وقف إطلاق النار والعنف في غزة وفي الضفة الغربية قد يخلق الظروف ليس فقط للبحث عن الحل المستدام لهذه الأزمة القديمة فحسب، بل لتجاوز بؤر النزاعات في الساحة الواسعة لمنطقة الشرق الأوسط والأدنى بناءاً على قرارات مجلس الأمن وليس طموحات جيوسياسية أو «القواعد» التي يحاول الغرب استبدال ميثاق الأمم المتحدة بها.

• من ناحية أخرى تتزايد الأصوات المطالبة بعقد مؤتمر دولي للسلام، ونعلم أن روسيا هي أحد رعاة عملية السلام في المنطقة. ما مدى فرص نجاح مثل هذا المؤتمر؟ وهل المنطقة جاهزة لعقد هذه الفعالية اليوم؟

كما قلت من قبل، فإن إقامة سلام دائم في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تنفيذ «صيغة الدولتين» للتسوية التي أقرتها قرارات الأمم المتحدة، والتي تنص على إنشاء دولة فلسطين المستقلة داخل حدود عام ( 1967) والتعايش مع إسرائيل بسلام وأمن.

أما بالنسبة للمؤتمر فكما تعلمون، طرحت روسيا بالفعل فكرة مُماثلة في وقت من الأوقات، ولم يتم تنفيذها مطلقاً لأسباب واضحة. والآن يحاول الأميركيون الترويج لمبادرتهم لعقد مؤتمر دولي. وأعتقد أنه سيكون من الصعب التفكير في اقتراح يأتي في توقيت سيئ أكثر من ذلك، نظراً لحمام الدم المستمر في غزة. وأكرر أنه في هذه المرحلة، المهمة الأساسية هي وقف إراقة الدماء بسرعة وتقديم المساعدة الإنسانية لجميع المحتاجين.

• أدلى الرئيس بوتين مؤخراً بتصريحات مهمة للغاية، مشيراً إلى أن العالم يتغير بسرعة ولن يعود إلى حالته السابقة، سواء في السياسة أم في الاقتصاد. فهل يلعب انتصار روسيا في أوكرانيا دوراً حاسماً في تشكيل النظام العالمي الجديد؟

نحن على قناعة تامة بذلك. فإن انتصارنا في أوكرانيا سوف يمثل نهاية العالم الأحادي القطب وظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدالة. لقد كانت الأزمة الأوكرانية نتيجة مباشرة للسياسة العدوانية المغرورة والمغامرة تماماً من قِبَلْ الغرب، الذي اعتاد على التفكير بمنطق الهيمنة والاستعمار الجديد وسياسة القوة، والذي يسعى إلى تقويض النظام العالمي المُعترف به عموماً والقائم على قواعد القانون الدولي وتبديله بـ«النظام القائم على القواعد» التي يغيرها بانتظام وفق منفعته الخاصة بحسب المستجدات المتغيرة.

ومع ذلك فقد أظهرت العملية العسكرية الخاصة أن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها فقدوا فرصاً حقيقية للحفاظ على تفوقهم الكامل، فقد فشلوا في إضعاف اقتصادنا أو إجبار العالم على عزل روسيا.

تسعى المزيد والمزيد من الدول إلى تعزيز سيادتها واكتفائها الذاتي وهويتها الوطنية والثقافية كما تسعى هذه الدول جاهدة للعمل وفق مصالحها الخاصة بغض النظر عن مصالح الغرب. لقد أصبحت بلدان الجنوب وشرق العالم في المقدمة، كما أن دور أفريقيا وأميركا اللاتينية آخذ في النمو. لقد تحدثنا دائماً منذ العهد السوفييتي عن أهمية هذه المناطق من العالم. ولكن اليوم ظهرت دينامية جديدة تماماً. كما تسارعت وتيرة التحول في أوراسيا بشكل ملحوظ، حيث يتم تنفيذ عدد كبير من مشاريع التكامل واسعة النطاق فيها.

واستناداً إلى هذا الواقع السياسي والاقتصادي الجديد، تتشكل اليوم معالم نظام عالمي متعدد الأقطاب.

• في كل مقابلة مع صحيفة «الوطن»، أثناء إجابتكم عن أسئلة حول العملية العسكرية الخاصة، قلتم إنكم واثقون من نتائج العملية. فهل بقيت هذه الثقة؟ أطرح هذا السؤال لأن هناك الآن محاولات من جانب الغرب للتحرك نحو المشاركة المباشرة في الأعمال القتالية.

نحن على ثقة تامة في تحقيق جميع الأهداف المحددة في إطار العملية العسكرية الخاصة. أنتم بنفسكم تلاحظون الوضع في الجبهة، حيث تعاني القوات المسلحة الأوكرانية الهزيمة تلو الأخرى، ويتقدم الجيش الروسي بشكل منهجي، ويحرر المزيد من الأراضي كل يوم.

وفي الوقت نفسه وكما أكد فلاديمير بوتين مراراً وتكراراً، فإن روسيا مستعدة للجلوس إلى طاولة المفاوضات في أي لحظة، أما بالنسبة لشروطنا لبدء مثل هذه المحادثات فهي معروفة وهي ما يلي:

أولاً، لابُدّ من سحب القوات الأوكرانية بالكامل من جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، ومنطقتَي خيرسون وزابوروجي داخل حدودها الإدارية التي كانت قائمة عند انضمامها إلى أوكرانيا. في لحظة إعلان كييف عن الاستعداد لتطبيق الخطوة المذكورة والابلاغ الرسمي عن إلغاء خطط للانضمام إلى حلف الناتو ستوقف روسيا النار وستبدأ بالمفاوضات.

ثانياً، لابد من الاعتراف بالحقائق الجيوستراتيجية الجديدة على الارض، بما في ذلك وضع شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول باعتبارهما كيانين تابعين لروسيا الاتحادية. وفيما بعد يجب تثبيت كل هذه الأحكام الأساسية والجوهرية في شكل اتفاقيات دولية. وبطبيعة الحال، فإن هذا يفترض أيضاً رفع كل العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.

ثالثاً، يجب ضمان وضع أوكرانيا المحايد وغير المنحاز والخالي من الأسلحة النووية، ونزع السلاح والتفكير النازي، وكذلك ضمان حقوق وحريات ومصالح المواطنين الناطقين بالروسية في أوكرانيا بشكل كامل.

وكما قال رئيسنا فإن روسيا تقترح خياراً من شأنه أن يجعل من الممكن إنهاء الحرب فعلياً، وطي الصفحة المأساوية في التاريخ والبدء – على الرغم من الصعوبة ذلك – في استعادة علاقات الثقة المتبادلة وحسن الجوار.

• كيف يمكنكم التعليق عن تأثير النتائج المخيبة للآمال للانتخابات الأخيرة في أوروبا، والتي أدّت إلى تعزيز قوى اليمين المتطرفة هناك، وذلك على الحرب الجارية في أوكرانيا؟

في الواقع أن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي والتي جرت في حزيران عكست كما كان متوقعاً ارتفاع شعبية الأحزاب اليمينية. فقد أرسل الناخبون الأوروبيون إشارة واضحة لا لِبْسَ فيها، فقد سئموا من دفع النفقات العسكرية للأوكرانيين من جيوبهم الخاصة، ودعم مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين، ومطالبة الساسة بحماية المصالح الوطنية لبلدانهم.

ولكن ما دامت القيادة في أوروبا تتخلى طوعاً عن السيادة السياسية، وتعطي المدن الكبرى وراء المحيط تقرير كيفية العيش في العالم القديم. فمن غير المُرجح أن يُسْمَعْ صوت «الشارع» الأوروبي، وتم تأكيد هذا الطرح من خلال رد فعل الغرب على خطة السلام التي طرحها فلاديمير بوتين – فقد ردوا عليها بتقديم إمدادات جديدة من الأسلحة لنظام كييف. وقد أظهر هذا مرة أخرى ليس ازدراء القادة الغربيين لمواطنيهم فحسب، بل أظهر أيضاً استعدادهم لشن حرب «حتى آخر أوكراني» من أجل إلحاق هزيمة إستراتيجية ببلادنا، وهو ما لن يحدث أبداً.

• قام فلاديمير بوتين بأول زيارة رسمية له بعد إعادة انتخابه لمنصب رئيس الاتحاد الروسي إلى جمهورية الصين الشعبية. ما دور روسيا والصين، الدولتين الحليفتين، في تشكيل عالم متعدد الأقطاب؟ وكيف يمكن أن يؤثر ذلك في سورية؟

بالنسبة لموسكو، تعدُّ بكين حليفاً استراتيجياً مُهماً، إذ تقوم العلاقات معها على المصالح المتبادلة الوثيقة. كما تربط الجمهورية العربية السورية أيضاً علاقات وثيقة مع الصين، ولاسيما من خلال الانضمام إلى مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. كما قام الرئيس بشار الأسد في العام الماضي بزيارة طويلة إلى الصين.

لقد لاحظتم بشكلٍ صحيح أن ملامح عالم متعدد الأقطاب بدأ بالتشكُّل بوضوح أكبر، فأمام أعيننا تتقوى مواقف دول الجنوب العالمي والدول الإقليمية الرائدة. وفي الواقع الناشئ حديثاً، تُشكِّل روسيا والصين مركزي قوة مستقلين يناضلان جنباً إلى جنب من أجل بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب عادل وعقلاني.

فموسكو وبكين مقتنعتان أن جميع الدول وبناءً على إرادة شعوبها، لها الحق في اختيار النهج التنموي وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي الوقت نفسه، فإن التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، وخاصة فرض عقوبات أحادية الجانب غير قانونية هو أمر غير مقبول.

وأنا على ثقة من أن النموذج العالمي الجديد سوف يخلق الظروف المؤاتية لحل الصراعات الإقليمية، بما في ذلك في الجمهورية العربية السورية الصديقة.

Exit mobile version