Site icon صحيفة الوطن

حلف واشنطن الأطلسي ومعضلة أوروبا فيه

| تحسين حلبي

في نيسان من عام 1949، بعد خمسة أعوام على انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء فيها على ألمانيا النازية واليابان وإيطاليا، أعلنت الولايات المتحدة عن تأسيس منظمة حلف الأطلسي وكانت تضم 12 دولة أوروبية، ثم انضمت إليها أكثر من عشرين دولة خلال عشر محطات زمنية من عام 1952 حتى عام 2024 فأصبح العدد الآن 32 دولة.

كانت الإدارات الأميركية توظف خلال الفترة السابقة الحلف لتحقيق أهدافها الإمبريالية العالمية منذ تأسيسه وأهمها محاصرة الاتحاد السوفييتي وكتلة دوله الاشتراكية تحت شعار «محاربة التوسع الشيوعي وإسقاط أنظمة حكمه في العالم»، ثم تحول هذا الشعار بعد انهيار النظام السوفييتي عام 1991 إلى ما يسمى بمحاربة «الإرهاب» بعد أن ازداد عدد الدول الأعضاء في الحلف إلى أكثر من خمس وعشرين دولة، وهناك دول شريكة للحلف من خارج أوروبا في آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلاندا وأستراليا، وكانت قمة دول الحلف التي عقدت اجتماعاتها في واشنطن في شهر تموز الجاري قد وضعت على جدول عملها ضرورة الاستمرار في الحرب التي يشنها الحلف ضد روسيا الاتحادية دعماً لأوكرانيا بل وعلى «ضرورة الاستعداد لمواجهة الأخطار المقبلة من الصين» في أعقاب التحالف الوثيق بين كل من روسيا والصين ضد نظام الهيمنة الأميركي، وفي قمة تموز هذه أشار البيان الختامي لقمة دول الحلف إلى «ضرورة تشديد الحصار على روسيا على كل المستويات وزيادة ما تدفعه دول أوروبا لزيادة الأسلحة والذخائر التي تتزود بها أوكرانيا من أوروبا والولايات المتحدة»، وقد لاحظت قمة الحلف أن رئيس الحكومة الهندي ناريندرا مودي كان يعقد اجتماع قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الوقت نفسه كان يُعْقَدُ اجتماع الحلف، ومثل هذا الحدث يشكل تحدياً لواشنطن لأنها لم تتمكن من حشد أكبر دولة في آسيا لمحاصرة روسيا والابتعاد عن الصين وهي الأهداف التي ستظل تولد خلافاً بين واشنطن وأهم دول الحلف الكبرى مثل فرنسا بشكل خاص، وهذا ما جعل المسؤول عن الدراسات العسكرية في برنامج الأمن الدولي ويليام جورج يعترف بأن «التحضيرات المعدة لقمة الحلف شهدت في هذا العام انقساماً وعدم اتفاق على عدد من المسائل مثل موضوع أوكرانيا، وهل سيصر الحلف على ضمها إلى عضويته؟ وهل سيزود الجيش الأوكراني بذخائر يحظر القانون الدولي استخدامها ضد روسيا وحلفائها في هذه الحرب»؟

إذاً فإن الحلف يفتقر لوحدة الموقف لأن عدداً من دول أوروبا تجد أنها مجرد تابع لواشنطن التي تعد المستفيد الأكبر من أي إنجاز يحققه الحلف وتفوز بمعظم جوائزه أمام أعين قادة أوروبا، وعند الخسارة تصبح هذه الدول الأوروبية هي التي تدفع معظم فواتيرها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي وتتعرض حكوماتها لانعدام الثقة فيها من الناخبين، في حين أن واشنطن لا تتأثر من هذه الخسائر بالقدر نفسه وتبقى قادرة على تجاوز المضاعفات بسبب حجم اقتصادها الكبير وهيمنتها على أسواق ومناطق إقليمية عديدة لا تسمح واشنطن بتقاسمها مع هذه الدول الأوروبية المنافسة مثل فرنسا وألمانيا بشكل خاص، ومع سوء توزيع الحلف للأرباح الإمبريالية التي يتحقق جزءاً منها تضطر دول أوروبية إلى التقليل من مشاركتها بالحروب الأميركية للحلف وتفضل التفاوض مع الأطراف التي تستهدفها واشنطن باسم الحلف مثل روسيا والصين، لتأمين مصالح عرقلت واشنطن تأمينها لها عن طريق الحلف.

لا شك أن واشنطن تدرك طبيعة هذه المعضلة ولذلك تتبع سياسة تمنع فيها دولاً تشارك في الحلف في آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية، من الخروج عن سيطرتها فهي تفرض على اليابان دفع أكثر من عشرة مليارات دولار سنوياً ثمناً لوجود قوات أميركية فيها، وهو ما تفعله نفسه مع كوريا الجنوبية وتمنعهما عن الاعتماد على دول أوروبية حتى لو كانت بريطانيا أقرب حليف تاريخي دولي لواشنطن.

تدرك واشنطن أيضاً، أنها لا تضمن في أي حرب يخوضها الحلف رسمياً أن تشارك كل دوله بقواتها ضد الدول الأخرى المستهدفة، وهذا يعني أن الحلف لا يمكنه القيام بقتال مباشر بكل جيوش دوله في أي حرب محتملة، بل هناك هامش لدى الدول الأوروبية بتجنب هذا الاستحقاق حفاظاً على وجودها أو لعدم قناعتها بضرورة الحرب المعدة، وهذا ما يمنع واشنطن عن تجاوز الخطوط الحمر مع موسكو وبكين في موضوع أوكرانيا وموضوع تايوان.

إن ما سبق يعني أن العالم تحكمه قواعد الحرب والسلم فيه قوى متعددة الأقطاب ولا يمكن إيقاف توسع الدور والتأثير الروسي والصين فيها، في حين تتخبط دول أوروبا بين الخضوع لواشنطن أو إيجاد هامش مناورات يخرجها من الاستحقاقات الأميركية التي تلحق الضرر بها، وهذا ما يقلم بدوره أظافر واشنطن في الساحة العالمية.

Exit mobile version