Site icon صحيفة الوطن

عن القراءات التي تناولت أسباب القمة الروسية- السورية ونتائجها.. وللصمت هيبة!

| فراس عزيز ديب

تُعلِّمنا المدرسة الواقعية بأن التحليل السياسي يجب أن يتجرَّد من كل عاطفة، لكن هذا لا يعني أن يتجردَ صاحبه من ثوابته، أنا عن نفسي أحب هذه الفكرة وإن كان العمل بها صعباً، لأنكَ إن تركتَ عواطفك تتلاعب بما تراه من حقائق فأنت تكتب كل شيء إلا التحليل، فالقفز فوق الحقائق بدافع العاطفة هو أشبه بمن تاهَ في الغابة ليجد من خلفهِ نهراً ومن أمامه وحشاً وعندما أدرك بأنه منتهٍ لا محالة أغمضَ عينيه لكيلا يرى الوحش، ظناً منه بأن التعامي عن الحقيقة سيلغيها!

بالسياق ذاته على التحليل السياسي أن يستند للكثير من الثوابت أهمها، استمرارية القارئ السياسي في تفنيد الأحداث بصورة ورقية، وسعة الاطلاع والقدرة على ربط الأحداث، وهي صفات ليست إعجازاً نادراً، لكن الأهم هو إمكانية الولوج إلى المعلومة سواء أكانت مسرَّبة عمداً أم وُزِّعت بشكلٍ عام لتترك حرية استنباط المشهد القادم لكل كاتبٍ حسب وجهة نظره.

من هذهِ الزاوية تحديداً وهي الزاوية التي تهمنا دعونا نتفق بأن بعض الأحداث السياسية في هذا العالم الملتهب والمتشابك تبدو عصية على التحليل، عليكَ ببساطة أن تتجاهلها ليسَ لقلةِ أهميتها بل لأن غياب ثوابت التحليل ستجعلك وأنت تكتب أشبهَ بمهرجٍ يكتب أمنياته السياسية بصورة مضحكة لا أكثر فما الجديد؟

خلال الحرب على سورية وما تخللها من أحداثٍ سياسية مفصلية كان للزيارات والاستقبالات التي يقوم بها الرئيس بشار الأسد مواضع مهمة في التحليلات السياسية، لكن لنعترف بأن أغلبيتها حملت صفة «التحليلات الكاريكاتورية»، كانت آخرها الزيارة التي قام بها إلى موسكو ولقاءه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، زيارة من دون أدنى شك تحمل الكثير من الرسائل التي ليست موضوع هذه الزاوية، بل موضوعنا هو الأخطاء المكررة التي يقع بها كتَّاب ومحللون سياسيون عندما يضعون التحليلات وهم يدركون قبل غيرهم بأنهم مجردُ مهلوسين، بمعزل عن العاطفة التي تحملها تحليلاتهم والخط السياسي الذي يكتبون فيه، لذلك يبدو من الضروري إعادة الإجابة عن بعض التساؤلات التي طرحها هؤلاء، ليس من مبدأ الاستناد إلى المعلومة بل من مبدأ تناقضات التحليل وهي كما يلي:

أولاً: ما إن انتشرت صور اللقاء حتى سارعت الكثير من المحطات للحديث عن وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو لحدوث اللقاء السياسي المنتظر مع الرئيس بشار الأسد وحدوث المصالحة المنتظرة بوساطة روسية، لكن مع التثبت من انتهاء الزيارة من دون وصول أردوغان، قام هؤلاء بتعديل التحليلات المطروحة للقول إن الرئيس فلاديمير بوتين طلب لقاء الرئيس بشار الأسد من أجل سماع المواقف الرسمية السورية التي تُطالب بجدولة الانسحاب التركي على الأقل قبلَ حدوث أي لقاء مع الرئيس بشار الأسد مباشرة، على اعتبار أن الروس وحسب هذه التحليلات، ممتعضون نوعاً ما من الطريقة التي تتعاطى معها القيادة السورية مع التوسلات التركية، من دون أن يحددوا لنا مصدر معلوماتهم عن هذا الامتعاض! وبالتالي إمكانية قيام الرئيس بوتين بممارسة الضغط على الرئيس بشار الأسد لقبول المصالحة مع تركيا من دون شروط مسبقة.

في الحقيقة يبدو هذا التحليل طفولي، وهو إذ يعني فإنه يعني بأن الرئيس فلاديمير بوتين لا يثق بمبعوثه الخاص إلى سورية ألكسندر لافرينتييف، الذي يقود جهود الوساطة حتى أرادَ سماع المواقف مباشرةً من الرئيس بشار الأسد؛ وهي حكماً فكرة مرفوضة نظراً لما يتمتع بهِ لافرينتييف من ثقة واحترام لدى الجانب السوري كما الروسي.

بالسياق ذاته فإن هؤلاء يجهلون تماماً طبيعة العلاقة التي تجمع الدولتين والمبنية أولاً وأخيراً على الاحترام المتبادل، فالمواقف السورية من اللقاء مع التركي ليست مستجدة وهو ما تقوله القيادة السورية منذ سنوات، تحديداً عندما يتعلق هذا الاحترام بمبادئ السيادة والوجود العسكري غير الشرعي كما هو الحال لوجود القوات التركية، لذلك تبدو هذه الفكرة مثيرة للشفقة عند مطلقيها ولو ذهبنا بأسلوبهم الطفولي إلى أبعد حد لسألناهم: ألم يكن الرئيس فلاديمير بوتين قادراً على سماع الجواب من الرئيس بشار الأسد مباشرةً عبر الهاتف مثلاً!

ثانياً: هناك من ربط الزيارة بالتطورات التي تشهدها المنطقة إن كان لجهةِ ما يجري عبر المعابر المائية في الخليج العربي، أو تصاعد الصراع بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وصدور تقارير عدة تتحدث عن اقتراب حدوث اجتياح إسرائيلي لجنوب لبنان بعد حصول بنيامين نتنياهو على ضوءٍ أخضر أميركي، على هذا الأساس جاءَ هذا اللقاء لنقل رسالة إسرائيلية تتضمن الطلب من الجانب السوري الضغط على المقاومة اللبنانية لوقف العمليات في شمال فلسطين المحتلة لتجنيب لبنان عموماً هجوماً يحاكي الهجوم على غزة، أو بتحييد الجانب السوري إن حدث الاجتياح بمنع حصول أي دعم عسكري للمقاومة اللبنانية عبرَ الأراضي السورية، لأن الكيان جاهز بأي وقت ليوسع عملياته حتى ولو شملت الأراضي السورية.

بالنظر إلى هذا التحليل فإننا أمام فكرة تصلح لكي تكون نواة لمسرحية كوميدية أبطالها أصحاب تلك الأقلام المأجورة، كيف لا، وحسب تحليلاتهم فإننا أمام قرار يبدو «سرياً للغاية» باقتراب الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، هذا القرار لا يعلم به إلا الروس والسوريون والأميركيون والإسرائيليون وبعض الدول الخليجية وبعض الدول الأوروبية، هل من سرية أكبر من ذلك؟ علماً أننا هنا لا ننفي إمكانية وقوع الاجتياح من عدمهِ بل وتحدثنا هنا في أكثر من مرة عبر هذه الزاوية بأن ما يشعر به الكيان من فائضِ قوة سيدفعهُ حُكماً لمغامراتٍ أوسع، لكن هناك من يتعمد فعلياً زج اسم سورية في هذا الحدث استعداداً لما هو قادم، فإن حدث الاجتياح سيقولون: «النظام السوري ترك حليفه وحيداً واستجاب للضغوط الروسية»، وإن لم يحدث سيكونون قد تمكنوا من زرع فكرة بأن «النظام السوري يفاوض لبيع الحلفاء»، من دون أن ننسى بأن الروس يمتلكون علاقات مميزة مع حزب اللـه من جهة ومع الجانب اللبناني من جهة ثانية، فإن كان لديهم من رسائل لإيصالها كان بإمكانهم إيصالها مباشرة من دون وسيط، أما مسألة تحييد سورية في أي معركة قادمة فهي نكتة سمجة، لأن سورية لا يمكن تحييدها عن معركة هي في قلبها أساساً، بمعزلٍ عن الدور الذي تلعبه، إلا إن كنا نظن أن احتلال الجولان والعدوان الإسرائيلي المتكرر على السيادة السورية والذي يطول أهدافاً مدنية وعسكرية من دون تمييز هي رسائل حب وسلام!

ثالثاً: هناك من ربطَ بين وقت الزيارة التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى موسكو، والزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة متحدثاً عن تشظيات ولادة النظام العالمي الجديد حيث يتمسك كل طرف بالحليف الأوثق!

في الحقيقة لا يبدو بأن هناك حل في القريب العاجل مع المروجين لكل حدث من منظور «ولادة نظام عالمي جديد» إلا الدعاء لهم بالشفاء العاجل، تحديداً أولئك الذين ركزوا على هاتين الصورتين وتجاهلوا صورة ثالثة لا تقل أهمية تضمنت استقبال وزير الخارجية الأوكراني ديميترو كوليبا في الصين، والحديث الصيني عن احترام السيادة الأوكرانية وضرورة الوصول إلى حل ينهي هذه الحرب ويؤسس لمرحلة سلام قادمة، ترى هل يدخل هذا اللقاء في إطار الوساطات أم تبادل الأدوار؟! لأنه من دون أدنى شك لا يدخل في سياق ولادة نظام عالمي جديد، ثم متى علينا أن نقر بأن فكرة ولادة نظام عالمي جديد مرتبط بصعود دول وانهيار قوى، وهذا ليس متوافراً حالياً لنعود إلى السؤال الأساسي: ما الذي حمله لقاء الرئيس بشار الأسد بالرئيس فلاديمير بوتين؟

ضعوا كل هذه التحليلات جانباً ولا تغركم ما فيها من عواطف بمعزلٍ عن الجهة التي تتبناه، وركزوا بالواقعية السياسية التي تقول لنا: إن ما حملته هذه الزيارة أمر مهم جداً، وهو تثبيت لبدهية يتجاهلها كل من يدَّعي المعرفة وبمعنى آخر: عندما تتحدث عن لقاء بصورةٍ عاجلة جمعَ قادة بلدين يمارسان أعلى درجات الانضباط الدبلوماسي والأمني برؤية مستقبلية يتماهى فيها البرود السيبيري مع العمق الجيوسياسي الدمشقي، هنا عليكَ أن تصمت وتنتظر النتائج لا أكثر، ما كذب من قال يوماً: وللصمت هيبة!

كاتب سوري مقيم في فرنسا

Exit mobile version