Site icon صحيفة الوطن

أمجاد لا تتغير بالتقادم!

| إسماعيل مروة

طبيعة العمل تجمع الإنسان دوماً بشخصيات عديدة تستحوذ على اهتمامه حيناً، وعلى احترامه أحياناً، وتعجبه طروحاتهم التي يقدمونها من أجل المجتمع والإنسان، ومن هذه الشخصيات عدد من العلميين والسياسيين والاقتصاديين والهامشيين أحياناً، وكلما جلست إلى واحد من هؤلاء، خاصة عندما كان ذلك قبل ثلاثين أو أربعين عاماً، وأكثرهم في ميعة الصبا والرجولة، تسمع منه كلاماً معجباً وجميلاً عن الشباب والطاقات والقدرات، وعن ضرورة أن يأخذ الشباب أدوارهم، منهم، حسب تعبيرهم، عندهم طاقات ودافعية ومعرفة حديثة متميزة.. وفي غمرة البحث والتناحر، كانوا يصطدمون بكبار السن والتجربة، وتصل الحروب مداها، فالكبار يصارعون للبقاء، والشباب يقاتلون لأخذ دور، مجرد دور، وهؤلاء يصفون أولئك بأنهم جيل انتهى ولا طاقة له، وهو خشبي التفكير، وأولئك يصفون الشباب بأنهم أولاد ولا تجربة لديهم، ولا يملكون الرؤية والخبرة، وعلى الرغم من كل شيء يتسلل بعض هؤلاء الشباب، وربما ساعدتهم الظروف بعملية انقلابية على الجيل القديم، وحلّوا محلهم..! وهنا أتحدث عن الذين يتصارعون ويملكون شيئاً ما، مهما كان قليلاً، ولا أتحدث عن أصحاب المواقع الذين جاءت بهم المصادفة أو القرعة أو المحاصصة أو الغوتا أو الموضة.

تبادل الأدوار والمهام عبر الأجيال أمر طبيعي، ويجب أن يحمل الواحد منا عن سابقه الكتف للعمل الذي ينتظره، وفي المقابل على السابق أن يؤهل القادم ويدربه ويجعله في المكانة اللائقة فيما لو وصلت إليه الدفة.

لكن ما نراه في مجتمعاتنا يقتضي العجب العجاب، فالجيل السابق، وهو غالباً دون مؤهلات كافية، وربما وصل إلى ما وصل إليه بالقدم أو السبق، ومع ذلك هو لا يرى غير نفسه وعلمه وذاته، مع أنه لم يطور نفسه، ولا يقرأ غير ما تجود به نفسه من علم، ويمكن أن نتأكد من ذلك من خلال الآراء، فمواقع التواصل تحتوي الكثير من الآراء لهؤلاء الذين أخذوا فرصاً كثيرة وأضاعوها على أنفسهم أولاً وعلى البلاد، ويريدون التشبث بمواقعهم وأفضليتهم، ويسفهون الناس تسفيهاً كبيراً، وكأنه لم يأتِ واحد بعدهم، وفي المنابر الإعلامية نقرأ الكثير من الغثاء من الآراء القديمة المحطة، والتي تصمم على رسم الاقتصاد كما لو أنه لم يتغير شيء في الحياة! ويريدون رسم الثقافة والأدب كما كانت الحال في خمسينيات القرن العشرين من دون أن يهتم واحدهم بالمراحل التاريخية، وبأن ما كان صائباً يومها ليس من الصواب في شيء اليوم، والأكثر غرابة أن بعض هؤلاء الذين يدلون بآرائهم، ويعيشون في الماضي يتناولونه بالتقويم دون النظر إلى القامات والعقول التي أحدثت الفروق في تلك الحقبة، فعندما نتحدث عن العقول الاقتصادية العربية من طلعت حرب إلى محمد العمادي، فهي قامات لها مواصفاتها ومقوماتها وظروفها، لذلك نجحت عندما تصدت لواقعها، لأنها كانت ابنة الواقع، وتمتلك الطاقات اللازمة لتلك المرحلة، وللبيئة التي تعيش فيها، وعندما نتحدث عن النقد والنظريات الأدبية، ونتناول الحركة الدائبة من العقاد وطه حسين وصولاً إلى حجازي وبسيسو ونزار قباني فإن هؤلاء حملوا سمتين اثنتين، الأولى هي القدرة الذاتية، والثانية هي الفهم الحقيقي للمحيط، ومع ذلك غادر هؤلاء وهؤلاء تاركين الساحة للشباب بعدهم، فهل كانت القامات بعدهم كما كانوا هم؟

ليس مطلوباً اليوم أن يكون لدينا شاعر بوزن المتنبي أو نزار، وليس مطلوباً أن يكون لدينا من الصحفيين من هم بوزن محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وغيرهم، لأن هؤلاء أنفسهم لو جاؤوا اليوم لن يقرأهم قارئ، ولن يحدثوا أي تغيير، فهم قامات لزمن، ونحن عندما نقرأ هؤلاء فلا نقرؤهم إلا من قبيل التاريخ والتجربة والعمق، أما ما يلزم الواقع فهو شيء مختلف.. وبالمقابل فإننا نجد جيلاً جاهلاً ومتنكراً من الشباب، يرفض كل القامات لأنه في الدرجة الأولى غير قادر على استنباط الواقع الذي يعيشه كما استنبطوا واقعهم، ويسلب أولئك محاسنهم فنزار بورجوازي، وكم من أديب بورجوازي اليوم ولا قيمة لما يقدم؟! ومحمد حسنين هيكل صنعه قربه من عبد الناصر، وكم من إعلامي ومترجم التصق بالحكام، ولكنه لم يستطع أن يقدم شيئاً لنفسه أو للحكام، هذا إن لم يكن قد أساء أكثر مما أحسن؟!

التعاقب والتجربة والشباب والطاقات أمور ضرورية في سيرورة المجتمعات كما هي ضرورة في سيرورة الحياة الفردية المجتمعية، ولكن أن يؤمن الكبار بأنهم خبرات عظيمة، ولكن دورها انحسر وإن لم ينته، وأن يقتنع الشباب بأنهم طاقات يجب أن تنهل من خبرات السابقين، وإن اختلفت عنها في طرائق الوصول، والثابت الوحيد هو مصلحة الإنسان ومواكبة الحياة، والمعايشة والمعاصرة لما نحن فيه، في جوانب عديدة نحيا حياة ماضوية تلبس مسوغات عديدة، فهل ننتظر النهايات، ونحن في صراع لا قيمة له؟

Exit mobile version