Site icon صحيفة الوطن

ما دور الحكومة بين التضخم الاقتصادي العادي والتضخم الجشع؟

| د. قحطان السيوفي

شهد العالم في السنوات الأخيرة أزمات جيوسياسية واقتصادية واجتماعية، من جائحة كورونا، إلى الحرب الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة، وقد انعكس ذلك على الاقتصادات العالمية تراجعاً في القوة الشرائية، وغلاء في الأسعار، وتضخماً.

وحذر اقتصاديون في تصريحات نقلتها صحيفة «فايننشال تايمز» من مخاطر حدوث انهيار في الاقتصاد العالمي في ظل استمرار زيادة حدة التضخم الاقتصادي.

يصف صندوق النقد الدولي التضخم بأنه أحد أكثر الكلمات شيوعاً في علم الاقتصاد، وهو سبب في غرق العديد من البلدان في فترات طويلة من الاضطرابات وعدم الاستقرار، والتضخم يشير إلى زيادة أسعار السلع والخدمات الشائعة أو تلك التي يستخدمها السكان بشكل يومي، مثل الطعام والملبس والمسكن.

ويعتبر معدل التضخم الاقتصادي مؤشراً على انخفاض القوة الشرائية للعملة الوطنية، وتحدد قيمته بنسبة مئوية، وتعكس معدل الزيادة في أسعار السلع والخدمات، وبالمقابل هناك ما يسمى «تضخم الجشع»، ويُستخدم هذا التعريف الأخير لوصف حالة تستغل فيها الشركات الفترات التضخمية من خلال رفع أسعارها بشكل كبير، لا لتغطية التكاليف المتزايدة فحسب، بل لتعزيز هوامش أرباحها.

ويشير المصطلح إلى أن بعض الشركات تستغل غطاء التضخم العام الناتج عن عوامل، مثل زيادة أسعار الطاقة، وتعطيل سلاسل التوريد، والأحداث الجيوسياسية، لفرض زيادات في الأسعار لا يمكن تسويقها.

«تضخم الجشع- Greed Inflation» مفهوم مثير للجدل، يُسلط الضوء على تعقيدات التضخم في الاقتصاد الحديث، واكتسب هذا المصطلح زخماً من خلال الاستغلال البشع من الشركات خلال الأوقات الاقتصادية الصعبة، وخصوصاً بعد الجائحة والأزمات العالمية.

وشهدت السنوات الأربع الأخيرة تدخلات حكومية غير مسبوقة، مثل حِزم التحفيز، والدعم المالي للشركات، وزادت من كمية الأموال المتداولة في الاقتصادات.

هذا الفائض من السيولة سمح للشركات بدفع زيادات في الأسعار، وهذا الوضع خلق أرضية خصبة لما يُعرف بـ«تضخم الجشع» كأخطر أنواع التضخم، فتزايد معدل التضخم الاقتصادي العادي يعني تناقص القوة الشرائية للعملة المحلية ويؤثر هذا على تكلفة المعيشة للمواطن، فعندما يكون التضخم مرتفعاً، تزيد تكلفة المعيشة، ما يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي.

ولعل من أبرز تداعيات التضخم أنه سبب للطبقتين الدنيا والوسطى إفقاراً وحرجاً بالغاً، ما خلق خللا في الأمن الاجتماعي والسياسي للدول وخاصة النامية منها.

وشهدت الولايات المتحدة الأميركية، التضخم المفرط الجشع، وفي السبعينيات عانت فترة ممتدة من التضخم، الذي وصل إلى 14 بالمئة سنوياً عند مرحلة ما، متسبباً بتراجع حاد لقيمة سوق الأسهم، وضعف النشاط الاقتصادي، وزيادة البطالة.

وهنا نشير إلى أبرز العوامل المسببة للتضخم الاقتصادي:

1- ارتفاع الطلب أو انخفاض الإنتاج، ما يخلق فجوة في الأسواق ينجم عنها ارتفاع الأسعار.

2- ارتفاع المعروض النقدي أو حجم الأموال المتداولة بين الناس.

3- قد يرفع المنتجون الأسعار لتغطية الزيادة المتوقعة في أجور العمال الراغبين في مواجهة تزايد تكلفة المعيشة، وهذا يفاقم معدل التضخم.

4- يمكن للكوارث الطبيعية التي تقلل من الإنتاج المعروض أن تتسبب في التضخم.

5- ارتفاع أسعار المنتجات العالمية، مثل النفط أو الغذاء، قد ينعكس على التضخم داخل الدول المستوردة.

6- الزيادة في تكلفة إنتاج بعض السلع يؤدي أيضاً إلى ارتفاع سعر المنتج النهائي.

وتلعب التوقعات دوراً رئيسياً في تحديد التضخم، فإذا توقع الناس أو الشركات أسعاراً أعلى، فإنهم يبنون على هذه التوقعات خلال مفاوضات الأجور وعقود الإيجار، وهذا يسبب التضخم، بالنسبة للأفراد ينظر الجميع إلى التضخم بشكل مختلف اعتماداً على نوع الأصول التي يمتلكونها، فمثلا؛ الشخص الذي يمتلك استثمارات عقارية أو سلعاً مخزنة، يعني له التضخم أن أسعار أصوله ترتفع، أما الذين يمتلكون نقوداً، فقد يتأثرون سلباً بالتضخم حيث تتآكل قيمة نقودهم.

ونشير هنا إلى دور الحكومات والإجراءات التي يجب عليهم اتخاذها لمواجهة التضخم لوقف هذا النزيف في أقوات الشعب؛ بما أن «تضخم الجشع» يشكل عاملاً مسهماً في استمرار التضخم، فهناك عدة تدابير لمعالجته، مثل تعزيز إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار لمنع الشركات من استغلال قوتها السوقية لرفع الأسعار بشكل مفرط لضمان عدم تمكن أي شركة من الهيمنة على السوق، كما أن فرض ضرائب على الأرباح المفاجئة خلال فترات الأزمات الاقتصادية لردع الشركات الجشعة من استغلال الأزمات لزيادة الأسعار، كذلك الرقابة على الأسعار، يعتبر وسيلة لمنع الشركات من رفع الأسعار بشكل مفرط على المنتجات الحيوية، مثل الطعام والطاقة، وضرورة اتخاذ إجراءات حكومية مدروسة توازن بين حماية المستهلكين، وضمان بيئة اقتصادية أكثر عدلاً للجميع، ويجب أن تقوم الحكومات بدورٍ فاعلٍ، بالنسبة لأسعار المواد الضرورية، مثل الوقود والغذاء، ويمكن ممارسة الضوابط التنظيمية والتشريعية حين تبدو هوامش الأرباح مرتفعة والمنافسة محدودة، كما يمكن للبنوك المركزية، تنفيذ ما يعرف بالسياسات الانكماشية وعادة يتم ذلك عن طريق رفع أسعار الفائدة.

لابد من رفع الحد الأدنى للإعفاء الضريبي، وزيادة الحد الأدنى للدخول والرواتب، وإجراءات الحماية الاجتماعية، إضافة لاعتمادات الدعم في الموازنة العامة.

من الأهمية، اتخاذ الحكومة إجراءات لخفض أسعار بعض السلع الأساسية بالتنسيق والتعاون مع اتحادات الغرف التجارية والصناعية والزراعية، لإعفاء العديد من السلع من الجمارك والرسوم لمدد محددة، مع منح الأولوية للسلع الأساسية والغذائية والأدوية ومستلزمات الإنتاج، ما يضمن إعادة دوران عجلة الإنتاج بكامل طاقتها، لزيادة المعروض السلعي، وبالتالي يسهم في تهدئة الأسعار والوصول إلى أسعار عادلة للمنتج والتاجر والمستهلك، كما يجب تشديد العقوبات؛ لمواجهة الاحتكار، واعتباره جريمة، وتضخيم حجم الغرامة.

من المفيد أيضاً العمل على إصلاح قانوني جهازي حماية المستهلك وحماية المنافسة، وإعطائهما المزيد من الصلاحيات، من الضروري إحداث جهاز تخطيط الأسعار، داخل هيئة تخطيط الدولة، ليقوم بتحديد أسعار السلع والخدمات التي تتطلب حماية اجتماعية، ومن جانب آخر ثبت جدوى المقاطعة الشعبية للسلع مرتفعة الأسعار، والتي يتبين للناس، أن هناك جشعاً واستغلالاً في أثمانها.

مبادرات مثل «خليها تعفن»، و«خليها تفقس» إلخ، لمواجهة أسعار الأسماك واللحوم والبيض وغيرها.

إن تجربة المقاطعة نجحت في بعض الدول، لمواجهة الفساد والاحتكار بين المنتجين والتجار، كما يجب دعم أجهزة الرقابة الآلية والمحاسبية للخلاص من كابوس التضخم.

المشكلة تكمن في السلع الرئيسة الإستراتيجية، التي لا يمكن قبول التلاعب بها، وهي زيت الطعام والفول البلدي والسكر والأرز والألبان والمعكرونة والجبن والدواجن، والتي إذا ارتفع ثمنها، شكل تهديداً حقيقياً للأمن الاجتماعي مع زيادة معدلات الفقر، وبسبب عدم مواكبة الرواتب والدخول للغلاء وارتفاع الأسعار.

في بعض الدول النامية تزداد حدة الجشع والفساد والإفساد الذي يمارسه التجار، ما يجعل الإجراءات الحكومية محدودة التأثير، وخاصة في ظل انخفاض الرقابة الحكومية على الأسواق، وفساد القائمين على المتابعة والإشراف، بل أيضاً للسلطات المحدودة في الأجهزة التنفيذية لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك.

أخيراً آمل أن تستفيد الحكومة السورية الجديدة من الأفكار التي تضمنها هذا المقال لمواجهة آفة التضخم.

وزير وسفير سوري سابق

Exit mobile version