Site icon صحيفة الوطن

تقاسيم

| د. خلف الجراد

قد تكون مشكلة مفكّرينا الأساسية كامنة في الفجوة الحاصلة بين الفكر والواقع، أو في عدم العمل الجدّي على إعادة النظر المستمرة في مقولاتهم وأطروحاتهم النظرية في ضوء الواقع المحسوس والمتغير. وبالمناسبة فإن أشهر المؤلفات العالمية في هذه الإشكالية، هو كتاب الفيلسوف الفرنسي المعروف هنري برغسون «الفكر والواقع المتحرك»، الذي ترجمه إلى العربية الدكتور سامي الدروبي، وصدر بدمشق في العام 1972، وكان من المراجع الأساسية في قسم الفلسفة بجامعة دمشق في سبعينيات القرن الماضي، ولا أدري هل بقي كذلك أم وضع على الرف.
ولست أنوي هنا الدخول في مناقشة هذه المسألة الفلسفية العويصة والمزمنة، أو التوقف عند معالمها وخطوطها الرئيسة، حسبنا هذه العجالة، التي لا تغني طبعاً عن التوسع والتعمق لمن يبغي الاستزادة في هذا المجال. فمثلاً نحن نتغنى ليل نهار بالعقل والعقلانية، ونزعم قراءة «التراث في ضوء العقل» (محمد عمارة)، ولكن هل قمنا بهذه المراجعة فعلاً، أم بقيت المسألة ضمن الشعارات البراقة، التي اعتاد مثقفونا ترديدها والمباهاة بها، «كديكورات» نزين بها كتبنا ودراساتنا وندواتنا؟!. فالعقلانية لدينا تحولت إلى مجرد خطابات وبيانات إنشائية، أو أقنعة – إن صح القول – لأوقات وظروف ومناسبات محددة فقط، ثم نخلعها لنعود إلى ممارسة حياتنا اليومية وصراعاتنا الأيديولوجية والحزبية والسياسية البعيدة عن العقلانية والتوازن، والبحث عن نقاط فكرية مشتركة وواقعية. فكم تغنى مفكرونا وأدباؤنا ومثقفونا بالمعتزلة وعقلانيتهم، وكم من الكتب والدراسات صدرت بشأنهم، ولكن هل تحولت هذه الجهود والتنظيرات والاقتباسات إلى تيارات أو تيار فكري- فلسفي- سياسي في حياتنا وممارساتنا الحديثة والمعاصرة؟!.. وهو ما يدفعنا إلى القول إن العقلانية الإصلاحية في الفكر الإسلامي خفتت وضعفت أركانها إلا من إعلان النيات، كما هي الحال في «النظرية الإسلامية للعقل» (عبد الحي عمور). فهناك سعي كبير وتنافسي لـ«أسلمة العقل»، أي جعله «عقلاً إسلامياً» لدفع بعض الشبهات عنه، مثل التصديق القلبي للنص الديني، والتركيز على الضمير والنية والوجدان، وصولاً إلى مسوغات أفعال الحكام الظَلَمة، وعدم القدرة على مواجهة «العقيدة الجبرية»، بل تسويغ ما يتعرض له الناس من جور وظلم وشرور وآثام بـ«منطق صوري إيماني» استسلامي.
ومن ذلك تحجيم العقل بالشريعة، وبعض المعتقدات الموروثة، التي أضرت كثيراً بالعقل وعمله (د. حسن حنفي). ومع أن دعاة «النظرية الإسلامية للعقل» يؤكدون «عودة العقل الإسلامي إلى الانفتاح والاستنارة من جديد»، إلا أنهم لم يقولوا لنا كيف الخروج من هذا المأزق و«الانسداد الفكري والتاريخي والحضاري»، بل إن «العقل» لا يعد أحد أركان وأسس الحركات الإسلامية المعاصرة، فبرأي منظّرها ومرجعها الأكبر (سيد قطب)، يتسم «الفكر الإسلامي» بسبع خصائص، ليس من بينها العقل أو العقلانية، وهي: الربّانية، الثبات، الشمول، التوازن، الإيجابية، الواقعية، والتوحيد (سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، 1980، ص 236-47).
ونختم هذه الإضاءة السريعة بقول الباحث المعروف محمد عمارة: إن البعض يدعو مخلصاً إلى صب الحاضر والمستقبل في قوالب الماضي، التي صنعها «السلف»، ظاناً أن هذه «القوالب» هي «الدين»، الثابت، الحاكم، المنزل من عند الله! على حين يرى البعض الآخر أن عزة هذه الأمة ومنعتها، وازدهارها الحضاري وقوتها القاهرة لم تتحقق إلا بعطاء «عقلها» وإبداع «عقلانيتها»، عندما اتخذت لنفسها مكاناً وسطاً، ونهجاً متوسطاً، هو «العدل» الذي رفض التطرف ونأى عن المغالاة والانحراف (د. محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، 1985، ص 6).
يبقى السؤال المفتوح منذ قرون هو: كيف نخرج من هذه الدوامة أو المتاهة الفكرية والوجودية، من دون أن نذوب فنستتبع، أو ننغلق فنتحجر، أو نتعلق بالتاريخ ونهمل الحاضر والمستقبل، فنصبح خارج التاريخ والعصر بآن معاً؟

Exit mobile version