Site icon صحيفة الوطن

الكتابة والحاسوب

|  د. علي القيّم 

مضى نحو أكثر من 25 سنة على تعاملي مع الحاسوب، واعترف أنه على الرغم من تطور تقنياته وتعدد استخداماته، وازدياد الحاجة إليه في أعمال ومجالات كثيرة، لم يستطع أن يأسرني ويمتلكني، كما فعل بكثير من زملاء العمل والمهنة، لأنني ما زلت أشعر بقوة بقيمة القلم وعلاقته الوشيجة باليد والعقل والقلب والعواطف والأفكار.
سحر القلم ما زال قوياً، ولن تستطيع كل تقنيات العصر دفعي إلى الاستغناء عنه وإهماله.
لا شك بأنه كان للحاسوب وما تبعه من تقنيات متطورة جداً، الأثر الكبير على منوال التفكير والكتابة والقراءة وتبادل المعلومات، فالرقميات والقدرة الفائقة على التفاعل مع المخزون والتبادل وربط المفاهيم الدلالية بعضها ببعض أدخلت تغييراً جذرياً في نمط التفكير، وكان هذا التغيير أعظم بكثير من ذلك الذي أحدثه التلفزيون من خلال إدماج الكلمة والصورة، فقراءة الصور يمكن ألا تحتاج إلى مستوى معرفي معين، وأنه إلى جانب المنطقي والفكري هنالك بعد حسي شعوري يؤدي إلى فهم أسرع وأعظم من الكلمة وحدها.
فالكتابة بمساعدة الحاسوب، والخزن على الشبكة العنكبوتية، واستخراج المخزون على الحاسوب، أدخل ثورة عميقة في الفضاء المعرفي الذي كان محدوداً في الزمان والمكان، ولم تعد الفكرة مجرد شيء ثابت، بل هي في تغيير متواصل ضمن عملية التبادل من دون حدود فضائية ولا حدود زمنية، وهنا يكمن خطر التعامل مع الشبكات التي تنقل معلومات جاهزة، من دون التحقق من الوصول إلى الفكرة المخزونة، والاكتفاء بالاطلاع على شكلها كمعلومة أو صورة ثابتة أو متحركة، أو كلمة مسموعة من دون التعمّق فيها واكتناه معناها ومقصدها؟
إن الانتقال من المكتوب الورقي إلى المكتوب «الإلكتروني» جعل عالم المعرفة يصبح أكثر «افتراضية» وقد أكد العديد من الكتّاب أن الكتابة «الإلكترونية» واستعمال الوثائق المتعددة الوسائط لها ميزة مهمة، وهي تبادل المعارف بصورة تكاد آنية، ما يمكّن الأفراد والمجتمعات من حركية «وديناميكية» تشجع على الخلق والإبداع، ولكن خطر الاستعجال جعل منطق النفاذ يحل في كثير من الأحوال، مكان منطق التراكم والفهم والإدراك، وهنا لابد من التأكيد أن الشبكة العنكبوتية لا توزع المعارف، ولا تمكّن من النفاذ إلى المعرفة، فهي في آخر الأمر وسيلة هائلة تمكّن من الولوج إلى مخازن كبيرة لا حد لها من البيانات والمعلومات.
فعملية تحويل هذه البيانات والمعلومات أو البعض منها إلى معارف تحتاج إلى وسائط فردية أو جماعية من أجل جعل هذه العملية ممكنة، والارتقاء من المعلومة إلى المعرفة يحتاج بدوره إلى عملية استبيان لكل البيانات الحسيّة الخارجية وإلى وقت، وهذا يخالف السرعة والتسارع والاستعجال الذي يميّز- اليوم- الشبكات الحاسوبية والمكتبات الافتراضية، وليست السرعة غاية في حد ذاتها، وهي لا تؤدي إلى نتيجة تذكر، إذا كان الإنسان لا يعرف مقصده، فاكتساب المعرفة من خلال الشبكات الجديدة، يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أن نتعلم، وأن نميّز الغث من السمين، وأن نجنّد حواسنا وعقلنا من أجل تعزيز قدراتنا الإدراكية بفضل النفاذ في جوهر الأشياء، والتجديد والإبداع يحتاجان إلى الزمن من أجل التفكير وإعادة التفكير.

Exit mobile version